تمكن زميلنا الصديق الطيب محمد خير، صاحب الحوارات المميزة، تمكن من انتزاع نجومية حوارات هذه (النسخة الباهتة) من احتفالات الثورة، فبينما ذهب الآخرون، كل الآخرين في الصحف المختلفة، في طريق إعادة إنتاج دراما وتراجيدا أحداث صناعة الثورة للمرة ما بعد العشرين، ذات الشخوص وذات الأقوال، في المقابل سلك الطيب محمد خير طريقاً مغايراً وهو يذهب لاستنطاق سجان كبير برتبة عميد، ألا وهو العميد سجون موسى عيسى المدير العام لسجن كوبر ليلة التنفيذ وغداتها، بهذا اللقاء استطاع الزميل الطيب أن يأتي بالجديد، وهذه هي قمة المهارة في قراءة الأحداث المتكررة، أن تأتي من زاوية لم يأت منها الآخرون، ولقد ذكر السيد العميد أن أول من زاره من الثوار هو العقيد صلاح الدين كرار الذي سأله (إن كان في السجن متسع) للزوار الجدد، ولكن أطرف موقف في سيناريوهات هذا المشهد، هو أن العقيد كرار عضو مجلس قيادة الثورة الذي أوكل إليه (ملف الاعتقالات) قبل أن يغادر السجن عاد ليسأل السيد العميد موسى إن كان له كامل الاستعداد للتعاون معهم، وكانت إفادته بالإيجاب، وربما رفض سعادة العميد التعاون مع عقيد الثورة كرار، ربما كان مدير السجن أول الداخلين إلى السجن ذاته، وربما أيضاً كانت ستتكرر تراجيديا أكتوبر «أصبح الصبح فلا السجن والسجان باق»، لكن تلك الإجابة لم تشفع للعميد موسى ليمكث أكثر من الأسبوع الأول، وسبحان مغير الأحوال، فالسيد كرار نفسه ومنذ أيام قليلة وفي ذات الصفحة الثالثة، يتساءل إن كان قد خصصت الإنقاذ له حرساً بعد أن ذهب للمعاش، قال كرار (أحرس نفسي بعكاز مضبب)، لكني وقفت طويلاً عند زيارة الشهيد الزبير للسجن بعد أسبوع من اندلاع الثورة، وسؤاله (مساجين الثورة)، إن كانت المعاملة غير حسنة، ويذكر في هذا السياق أن مولانا الميرغني قد وقف احتراماً للعميد الزبير، فقال له (يا مولانا اجلس)، ولما رفض، جلس الشهيد على الأرض ليجلس مولانا الميرغني هو الآخر، وكانت ملاحظة السيد العميد موسى من الحصافة والخطورة بمكان، وهو يقول بأن الإسلاميين كانوا (مجيهين)، ولم يقل الآخرون كانوا (متجهجهين)! وذلك في سياق دراما «اذهب أنت للقصر رئيساً وسأذهب إلى كوبر سجيناً»، غير أن سجن كوبر بالنسبة للإسلاميين، بمثابة (جبل أحد) للصحابة رضوان الله عليهم، فكوبر سجن يعرفهم ويعرفونه، ويأتي في المرتبة الثانية السيد الإمام الصادق المهدي، وفي المرتبة الثالثة الممتازة مولانا محمد عثمان الميرغني، وقصة السجون في السودان مقلوبة تماماً، فأكثر السياسيين سجناً أكثرهم بلاء ونجومية، لدرجة إذا أردت أن تقدم قيادياً بحجم دكتور الترابي الآن إلى محاضرة، ولو كانت عن شعب البوسنة والهرسك، فستقف طويلاً عند (المدد) التي قضاها في السجن فكما اعتقل الراحل جعفر نميري، يرحمه الله، في مايو لثلاثة أيام في تلك الثورة الارتدادية، كذلك سجن (رجل الإنقاذ) الترابي مرات عديدة في ظل ثورته التي صنعها بليل الأسى ومر الذكريات ومن قبل تلاميذه الذين صنعتهم الحركة الإسلامية وصقلتهم المنابر والسجون والشجون والأشواق، بل لا أعرف رجلاً قد سجن في ظل ثورته مثلما يسجن الرجل الترابي، الذي ظل أخطر على ثورته من أي كادر آخر، ويذكر أن الرئيس البشير قد وجد يوماً الراحل نميري في خيمة عزاء بكوبر، فسأله نميري: «الراجل وين؟»، قال البشير: «في سجن كوبر»، يقول نميري: «والله تفرط فيه تصبح مثلنا تحوم بين الخيم»! وبتقديري لا ينقص من زعامة السيد الميرغني أنه كان أقلهم سجناً ويفترض أن السجون تكون (خصماً) من سيرة أصحابها، فضلاً عن أن تكون إضافة، ففي دول الديمقراطيات العظمى يستبعد الحاكم الذي في ماضيه سجن أو تهرب من ضريبة، أو أنه لم يؤد واجب الخدمة الوطنية. ولو كان مجلس الصحافة يمنح صحافياً جائزة لأفضل حوار في المناسبات المختلفة لكان رجل (هذه النسخة من أعياد الإنقاذ) هو الصحفي الطيب محمد خير. والله أعلم.