صبيحة الثامن عشر من يونيو 2009 كان الملف السوداني لحقوق الإنسان المودع لدى المجلس المختص التابع للمنظمة الأممية، قد أخذ منحى آخر، عندما تواثق رجالاته في جلستهم رقم (11) على تعيين خبير مستقل معني بحالة حقوق الإنسان في السودان، الذي كان يتأهب - وقتها - لخوض غمار الانتخابات العامة، وتواثق رجالات المجلس مرة أخرى وهم يعلنون بالإجماع بعد انقضاء أقل من أربعة شهور؛ وتحديداً في أكتوبر، تعيين القاضي محمد شاندي عثمان للمنصب المستحدث، ولم يكن عصياً وقتها إدراك الرفض الحكومي لقرار المجلس، الذي قبلته على مضض، وهي التي ما فتئت تذكر العالمين بأنها الأوْلَى بصون حقوق شعبها من الفرنجة. والموقف الحكومي ربما يفسر التأخير الذي لازم زيارة شاندي الأولى إلى البلاد لمباشرة تفويضه، إذ أنفق أربعة أشهر ما بين بلاده ومباني المجلس بجنيف، قبل أن يصل إلى الخرطوم في الثالث والعشرين من يناير 2010 ليغادرها بعد سبع عشرة ليلة كانت تداعياتها كما هو متوقع، حين رفضت الحكومة تقريره الذي رفعه إلى المجلس عن مجمل زيارته، ليخبو نجم الرجل ردحاً من الزمن، قبل أن يعلن ممثل المفوّض السامي لحقوق الإنسان في السودان، في مارس الماضي، عبر تعميم صحفي عن الزيارة الثانية لشاندي، التي بدأت فعلياً في الخامس منه واستمرت نحو أسبوع، أجرى خلالها مباحثات مع كبار المسؤولين الحكوميين والفاعلين بمنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان، علاوة على ممثلي السلك الدبلوماسي ووكالات الأممالمتحدة. زيارة شاندي الثانية التي شملت أبيي ودارفور والجنوب، برأي مراقبين لملف حقوق الإنسان بالسودان؛ لم تكن سوى رد فعل على فعل حكومي نفذ قبيل أسبوع من إعلان الزيارة، حين هبط وزير العدل، محمد بشارة دوسة، متأبطاً مرافعته الأخيرة، على أعضاء المجلس الدولي بجنيف مطالباً بإنهاء تفويض شاندي، الذي جدد تفويضه في سبتمبر الماضي لاثني عشر عاماً أخرى، لجهة أن البلاد لم تعد في حاجة إلى خبير مستقل، وهو الطلب الذي قوبل بالرفض القاطع من قبل المعارضة وقتها، التي قالت إن انتهاكات حقوق الإنسان لا تزال على أشدها، وطالبت المجلس برفض طلب دوسة. مخرجات الزيارة كانت - مع ذلك - محل ترحيب - نسبياً - من الجانب الحكومي، خصوصاً أن شاندي كان قد وجه انتقادات لاذعة للانتهاكات التي قال إن سلطات الجنوب ترتكبها في حق شعبها؛ جاوزت تلك التي وجهها إلى حكومة الخرطوم. وخلافاً للمسافة الفاصلة بين الزيارتين؛ الأولى والثانية، قرر الخبير المستقل تدشين زيارته الثالثة التي انطلقت منذ الثلاثاء الماضي، بلقاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، التابع لوزارة العدل، التي عينت لتوها وكيل نيابة مختصاً بمعاينة أوضاع معتقلي جهاز الأمن الوطني والمخابرات، فما كان من شاندي إلا الترحيب بالخطوة وتضمينها في الجانب الإيجابي من تقريره، الذي سيتلوه على أعضاء المجلس الدولي لاحقاً، ناصحاً الحكومة بالإسراع في خطوات تشكيلها للمفوضية الوطنية لحقوق الإنسان، كإحدى توصيات مجلس جنيف، منوهاً إلى أن الخطوات التي شرعت في تنفيذها حكومة الخرطوم تشير إلى تطورات إيجابية تجاه سعيها لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، واصفاً اعتماد الحكومة لنظام التقارير الدورية عن حقوق الإنسان بأنه يعزز من تعاونها مع المجتمع الدولي. ومن نافلة القول إن التعاون الذي شرحه الخبير المستقل يؤكد رغبة الحكومة في عدم تجديد ولاية شاندي في سبتمبر المقبل، وإزالة اسم السودان من قائمة الدول المفروض عليها رصفاء شاندي، كآخر إجراء يتصل بملف السودان، وهو ما أعرب عنه وكيل وزارة العدل عقب لقائه بالقاضي. فهل يجدد مجلس الأمن تفويض شاندي الخاص بصون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بموجب قرارها 217 ألف (د-3) المؤرخ في العاشر من ديسمبر 1948 والمشكل من ثلاثين مادة تقول أولاها: (يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء)، وتقول أخراها: (ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطوائه على تخويل أية دولة أو جماعة، أو أي فرد، أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه)، أم يمنح المفوضية الوطنية والمجلس المحلي الثقة المطلوبة واعتماد تقاريره الدورية بديلاً لتقارير القاضي شاندي وجعل تقريره المنتظر تقديمه في جلسات الدورة رقم (18) لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، آخر ما يسطره الفرنجة عن حقوق الإنسان السوداني؟!