في الحادي عشر من الشهر الماضي، وعندما كانت الطائرات العسكرية تمشّط سماوات أبيي بعد اجتياحها من قبل القوات المسلحة السودانية كرد فعل مباغت على اعتداء الجيش الشعبي على قوة تابعة للجيش القومي ترافقها قوة تابعة لبعثة (يونميس)، كانت طائرة جلاوزة مجلس الأمن الدولي تشق ثنايا شفق مغيب الخرطوم، بعد أن بدلوا أجندة زيارتهم المعلنة بجند وحيد يتصل بوضع حد لحرب اندلعت فعلياً في المنطقة وهم المعنيون بالحفاظ على الأمن والسلم في أرجاء المعمورة..!! جاء عتاة المجلس يتقدمهم مناديب الدول الخمس التي تتمتع بالعضوية الدائمة وحق النقض (الفيتو)، ومع ذلك كبر عليهم مقابلة القيادة العليا لحكومة الخرطوم للدرجة التي جعلت مندوبة الولاياتالمتحدة سوزان رايس تبدي امتعاضها من ترفّع الخرطوم عن ملاقاتها بالتمثيل الذي تقتضيه الأعراف الدبلوماسية. فوقع الجلاوزة على دفتر المغادرة تجاه عاصمة الجنوب قبل إعلان إدانتهم لاعتداء الجيش الشعبي بجانب اجتياح القوات المسلحة لأبيي داعين إلى سحب جميع العناصر المسلحة من المنطقة، ثم بارحوا جوبا بعد تجديد إدانتهم من داخل مباني قصر جمهوريتها المرتقبة، لترد عليهم القوات المسلحة بتسمية العميد عز الدين عثمان حاكماً عسكرياً لأبيي فتلبستهم حالة من عدم الرضا عن غنيمة الإياب، ليجتمعوا مجدداً مساء أمس الأول لبحث تطورات الأوضاع بأبيي في جلسة عاصفة رأسها رئيس المجلس للشهر الحالي المندوب الدائم لدولة (الجابون) «نيلسون ميسون» تمخض عنها بيان رئاسي طالب الحكومة مجدداً بسحب الجيش القومي من المنطقة وتسهيل وصول منظمات الإغاثة للمتضررين قبل أن يشير صراحة إلى مليشيات قال إنها موالية للجيش، طالبه بسحبها هي الأخرى. الرد الحكومي جاء منسوخاً من سابقه عندما جدد وزير الخارجية علي كرتي أمس رفضهم لطلب المجلس الدولي قاطعاً ببقاء القوات المسلحة لحين الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن المنطقة، كاشفاً عن مجهودات قادتها حكومته بمعاونة بعض الأصدقاء - لم يسمّهم - أفضت إلى إحداث تعديلات على مسودة بيان مجلس الأمن، واصفاً المسودة بأنها كانت (مرصّعة بالإدانات والتخريف)، وقال إن من صاغوها يعيشون بعقلية الماضي، معلناً بشيء من الفخر: «نجحنا في إزالة كثير من الألغام في البيان»، واصفاً طلب المجلس بغير المقبول، وبشيء من التهكم قال: «إذا كان المجلس حريصاً على حل الأزمة فعليه أن يدعم وساطة الاتحاد الأفريقي»، ناعتاً الوسيط الأفريقي ثامبو أمبيكي (بالنزيه) الذي يراعي مصلحة كل الأطراف مستشهداً بطرحه لعدة مقترحات وافقت عليها حكومته ورفضتها حكومة الجنوب. وزير الخارجية لم ينس أن يصوّب بصر جلاوزة المجلس صوب الجيش الشعبي الذي ارتكب عشرة خروقات - كما يقول - تتصل بالترتيبات المتفق حولها لحل المشكل في غضون شهرين فقط، دون أن يطرف للجلاوزة جفن، وكذا الحال مع قوات (يونميس)، منوهاً إلى أن الجيش السوداني دخل أرضاً سودانية ولن يخرج منها دون إبرام اتفاق يضمن أمنها واستقرارها. إذن، يبقى في المحصلة وفي قناعة الجميع أن أمن واستقرار المنطقة ينسحب على استقرار البلاد بأسرها، إن لم نقل محيطها الإقليمي، وهو ما حدا بالجارة إثيوبيا إلى أن تقترح إرسال قوة من جيشها الوطني لحفظ سلام أبيي كبديل محتمل لقوات (يونميس) التي أنهت وزارة الخارجية تفويضها رغماً عن رفض الأممالمتحدة لقرارها، وإن كانت الخرطوم لم تفصح حتى الآن عن مكنون سرها تجاه المقترح الإثيوبي، إلا أن (نزاهة) أمبيكي التي أشار إليها كرتي تنبئ عن موافقة مبكرة لدرء خلاف لا يلوح في الأفق ما يبشر بحسمه في حال تجاوز الطرفان مؤسسات الاتحاد الأفريقي الذي يخاف من مخاض عسير لأحدث دولة يحتم عليه (الحرص والنزاهة) اللازمين.