في عام 1998م فكر قرنق في احتلال مدينة جوبا عن طريق عملية (القفزة الأخيرة)، قام قرنق في إطار الإعداد لتنفيذ العملية بشرح تفاصيل خطتها للقادة المنفذين لها من على تربيزة رمل أعدت في منطقة تقع جنوب ليريا. أشار قرنق إلى أن خطته سهلة ومبسطة للغاية، وشبّه لقادته منطقة قطاع ليريا - جوبا - توريت بأنها تشبه (التور)، وأوضح لهم بأن ليريا تمثل (ضهر التور)، وجوبا تمثل (رأس التور) وتوريت تمثل (ضنب التور). قرر قرنق احتلال منطقة ليريا (ضهر التور) في المرحلة الأولى لأهميتها التكتيكية ولعزل منطقة توريت عن جوبا، وكان قراره في المرحلة الثانية الاندفاع بسرعة لاحتلال مدينة جوبا (رأس التور). أشار قرنق لقادته المنفذين إلى أن قطع (ضهر التور) وتقسيمه إلى قسمين سيسهل علينا كثيراً عملية جر (رأس التور) و(ضنب التور). تلك هي تفاصيل خطة قرنق لاحتلال مدينة جوبا كما رواها لي العقيد علي قسم الله، رحمه الله، قائد قطاع ليريا وبطل العملية عند زيارتي إلى المنطقة بصفتي مفتشاً عاماً للقوات المسلحة لتقييم الموقف العسكري، بالمنطقة العسكرية الاستوائية بعد نهاية عملية القفزة الأخيرة. لقد أطاح العقيد علي قسم الله بأحلام قرنق في احتلال مدينة جوبا وحول قفزته الأخيرة إلى قفزة للهاوية!! الآن يكرر التاريخ نفسه حيث أن عمليات التطهير التي ستقوم بها القوات المسلحة ستجري في ثلاث مناطق، هي منطقة أبيي، وهذه قد تم انجازها بنجاح تام وفي زمن قياسي استغرق (36) ساعة فقط، أما المنطقة الثانية فتمثلها منطقة جنوب النيل الأزرق، والمنطقة الثالثة تمثلها منطقة جنوب كردفان. تمثل هذه المناطق بروتوكول المناطق الثلاث الذي وضعه القس اليهودي جون دانفورث. إذا ما تتبعنا تكتيك قرنق الذي انتهجه في عملية القفزة الأخيرة في عمليات التطهير فإنه يمكن لنا أن نشبه هذه المناطق الثلاث (بالتور) حيث تمثل منطقة أبيي (ضهر التور) وذلك نسبة لأهميتها الإستراتيجية حيث أنها منطقة غنية بالبترول وتوجد بها القوات الرئيسية للحركة الشعبية من أبناء الدينكا، أما منطقتا جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان فإنهما تمثلان الرأس والضنب. بعد أن تمكنت القوات المسلحة من قطع (ضهر التور) وتقسيمه إلى قسمين، فإنه يسهل عليها جر الرأس والضنب بكل سهولة خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن القوات الموجودة (برأس التور وضنب التور) هي عبارة عن مليشيات من أبناء المنطقتين تابعة للجيش الشعبي. الجدير بالذكر أن الغرض الأساسي من بروتوكول المناطق الثلاث هو ضم هذه المناطق لجنوب السودان لتصبح منطقة عازلة بين شمال السودان وجنوبه، وقاعدة متقدمة لانطلاق الحرب الجديدة بين الشمال والجنوب. تصريحات قادة الحركة الشعبية التي أشاروا فيها إلى أن مسرح الحرب الجديدة سيكون شمال السودان، كشفت هذه التصريحات عن المخطط الجديد. من هنا يمكن القول إن القرار العسكري الذي اتخذته القوات المسلحة لتطهير شمال السودان من دنس عناصر الجيش الشعبي، يعتبر هذا القرار الشجاع قراراً صائباً جاء في زمانه ومكانه ليضع حداً لغطرسة وعنجهية وغرور الحركة الشعبية ويوضح لها حجمها ووزنها الحقيقي في الميدان. هذا القرار يعبر عن الفكر العسكري السوداني الأصيل. الإنذار العسكري للقوات المسلحة الذي وجهته للجيش الشعبي لسحب قواته إلى جنوب حدود أول يناير 1956 خلال أسبوع، يعبر هذا الإنذار عن غضبة الحليم التي حبستها أوهام وأحلام السياسيين الذين كانوا يبحثون عن السلام مع عدو جاهل لا يملك قراره، عدو لا يعرف العهود، ولا يؤمن بالمواثيق ولا يحترم الاتفاقيات التي وقعها، عدو يعرف الغدر والخيانة والحقد، عدو أصبح يشكل آلية من الآليات التي تعتمد عليها الصهيونية العالمية في التدخل في الشأن الداخلي للسودان. الآن لقد حان الوقت وحانت الفرصة المناسبة لوضع حد لكل ذلك بتدمير هذه الآلية التي إذا ما تركت لتنمو مع مرور الزمن بعد اكتسابها للشرعية الدولية في التاسع من يوليو القادم، فإنها ستتحول إلى إسرائيل ثانية بالمنطقة حتى تتمكن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تحركها الصهيونية العالمية من السيطرة على ثروات وموارد القارة الأفريقية البكر، كما سيطرت على منطقة الشرق الأوسط الغنية بالبترول عن طريق ربيبتها إسرائيل. عودة القوات المسلحة إلى مواقعها السابقة بمنطقة أبيي تمثل رسالة قوية لأذناب الحركة الشعبية في منطقة جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وقطاع الشمال العميل للحركة الشعبية. تشير هذه العودة السريعة للقوات المسلحة إلى مواقعها السابقة بمنطقة أبيي، إلى أن الجيش قد أصبح يمتلك الآن عناصر المفاجأة والمبادرة والمبادأة، وتلك هي العناصر الرئيسية لتحقيق النصر النهائي في الميدان. القوات المسلحة بدخولها منطقة أبيي وتأمينها لها حتى شمال بحر العرب، فإنها تكون بذلك قد قطعت (ضهر التور) وتبقى لها (رأس التور والضنب) وهما من الوزن الخفيف كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه. مثلما كانت قفزة قرنق الأخيرة قفزة للهاوية بإذنه تعالى فإن عمليات التطهير ستقود الجيش الشعبي إلى جرف سحيق!! المعروف أن كسب نتائج العمليات العسكرية يتوقف إلى حد كبير على دراسة العدو، وفي تقديري أن العدو الآن في أضعف حالاته، وهذا يعني أن قرار التطهير كان قراراً مدروساً بدقة تامة تساعد في إنجاز المهمة في أقصر وقت ممكن قبل حلول فصل الخريف الذي يكون قد بدأ الآن بمناطق التطهير المحتملة التي استهدفها إنذار القوات المسلحة. المطلوب من أبناء منطقة جنوب النيل الأزرق ومنطقة جنوب كردفان العاملين في صفوف الحركة الشعبية أن يسلموا أسلحتهم، وإلا فلا بد من أن تطالهم عمليات التطهير، كذلك تبرز أهمية حظر نشاط قطاع الشمال العميل للحركة الشعبية. إذا كان الهدف السياسي لعمليات التطهير هو الوصول إلى حدود الجمهورية الثانية فهذه جمهورية منقوصة لا ترضي طموحنا، ولهذا فإنه لا بد من الوصول في عمليات التطهير للمرحلة الثانية إلى حدود المليون ميل مربع، حدود الجمهورية الأولى التي ورثناها من الاستعمار في أول يناير 1956م. إطلاق يد القوات المسلحة كنا ننادي به دوماً ومراراً وتكراراً حتى بح صوتنا، الآن بعد أن تحقق ذلك لقد أصبحت الكرة في ملعب القوات المسلحة، وهذه فرصة تاريخية ينبغي استغلالها بذكاء لإعادة كتابة التاريخ السوداني الذي شوهته اتفاقية نيفاشا (الكارثة). المطلوب الآن من القوات المسلحة تنفيذ إنذارها حتى لا تنطفئ الفرحة في نفوس الشعب السوداني الذي هلل وكبر لهذا الإنذار العسكري التاريخي. بما أن المؤتمر الوطني قد كشر عن أنيابه وأعاد للإنقاذ بريقها وعنفوانها وجدد لها شبابها، فإن المرحلة الحالية تعتبر مرحلة الصقور - بالرغم من عدم قناعتي التامة بهذا التصنيف - أما الحمائم فالمطلوب منهم تنظيم وحشد الجهود وتوفير القدرات والإمكانيات وضبط التصريحات الإعلامية وتأمين الجبهة الداخلية عن طريق تحقيق الوحدة الوطنية لتأمين ظهر القوات المسلحة وهي تخوض حرب الوجود وليست حرب الحدود. لقد كشف العدو عن أهداف حربه الجديدة ضد شمال السودان بتصريحاته التي أشارت إلى أن عمر البشير سيكون آخر رئيس عربي يحكم السودان، وهذا يعني أن العدو يخطط لحرب عنصرية!! مدرسة الدفاع الشعبي أوجدت لنا آلية سريعة ومضمونة لمنظومة التعبئة والاستنفار، تماثل هذه المنظومة آلية استنفار الجيش الإسرائيلي الذي عرف بأنه يستطيع حشد كل القوات التي يحتاجها للعمليات في ساعات محدودة. منظومة الاستنفار التي أوجدتها مدرسة الدفاع الشعبي كان لها الأثر الفعال في نجاح عمليات صيف العبور التي قلبت موازين القوى بالمنطقة وحولت الحركة الشعبية إلى لاجئين بدول الجوار. كما كان لهذه المنظومة دور كبير أيضاً في إفشال عمليات شد الأطراف المشهورة. منظومة الاستنفار والتعبئة هذه عالجت مشكلة الإمداد بالرجال في الميدان بمستوى عال للغاية حيث أصبحت مقدمة الجيش في الخطوط الأمامية ومؤخرته في مراكز التدريب بالمرخيات ومراكز التدريب الأخرى. وما بين المقدمة والمؤخرة تنضم أفواج المجاهدين وجحافل وأرتال المقاتلين مما يساعد في الحفاظ على إدامة زخم الهجوم.. المطلوب الآن تفعيل هذه المنظومة ذات الأهمية الإستراتيجية. أما المرجفون الذين وصفوا عودة القوات المسلحة إلى مواقعها السابقة بمنطقة أبيي بأنها دعوة إلى الحرب فإنني أقول لهم إن الحرب أصلاً مفروضة علينا لأن الفلسفة التي قامت عليها حرب الجنوب هي أن تكون حرب استنزاف دائمة وقد عبرت إسرائيل عن ذلك صراحة بأنها قد بنت إستراتيجيتها ضد السودان ليكون دائماً مشغولاً بنفسه حتى لا يقف على رجليه ليدعم قضايا أمته العربية والإسلامية. كذلك أذكر هؤلاء المرجفين بمعاني الآية الكريمة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ). بعد تأمين منطقة أبيي المطلوب الآن الإسراع في تشكيل إداريتها بتعيين قائد عملية تأمين المنطقة رئيساً للإدارية حتى يتسنى له توظيف موارد الإدارية في بسط الأمن خلال هذه المرحلة وأن يتم تعيين مساعديه من أبناء المنطقة بالتساوي من أعيان المسيرية ودينكا نقوك. بعد هذه القرارات التاريخية والشجاعة التي اتخذتها الدولة فلا تراجع ولا تفاوض ولا اعتراف بدولة الجنوبالجديدة ولا تعاون معها مهما كانت الضغوط الخارجية، وعلينا أن نتذكر بأن أي تراجع في هذا المنعطف الخطير يعني فقدان الدولة لهيبتها وسلطتها ومكانتها في الأسرة الدولية. ختاماً اعقلوها جيداً وتوكلوا على بركة الله فهو ناصركم بإذنه تعالى وبالله التوفيق فريق أول ركن/ زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكرية العليا