{ ظل المرض النفسي لغزاً محيراً لشعوب ما قبل التاريخ والعصور الوسطى، ودارت حوله الكثير من الأساطير والخرافات والأفكار والمعتقدات الخاطئة، حتى ظهر الطب الحديث والفحوصات والمستشفيات المتخصصة في الطب النفسي، التي كان السودان رائداً فيها بفضل أستاذ الجيل الدكتور التجاني الماحي رحمه الله. { وقد انعكست هذه المفاهيم القديمة مع الجديدة، إضافة للموروث الشعبي والتراث الشفاهي السوداني في العديد من الظواهر الغنائية التي تناولت هذه الظاهرة بمناحٍ شتى. { على سبيل المثال نجد أغنية (الناعسات عيونن) التي كتبها حدباي واشتهرت حالياً بمشاركة أداء الفنان علي ابراهيم (اللحو) وفيها يقول: (صارن لي زي ليلى وصرت أنا زي المجنون)، وهو وإن كان يبدو - في المعنى القريب - يقصد الشاعر الولهان (قيس بن الملوح) في قصة حبه الشهيرة مع (ليلى العامرية)، إلا أنه يقصد أنه من شدة جمال ودلال هؤلاء الغواني، اللائي يحضرن للبادية، فإنه قد أصبح (مجنوناً) بهن، وهي إشارة واضحة للمفهوم السائد بأن الحب الشديد والوله الجارف قد يؤدي بالعشاق إلى الجنون.. ويتضح هذا جلياً في أغنية (الكحلاوي): إن شاء الله أجن وأزيد في الجن وإنتو جنوني يا حلوين { وهذا يتفق مع ما توصل إليه الطب الحديث من أن العواطف الجياشة وشدة الحب والهيام قد تؤدي إلى بعض الإشكالات النفسية كالاكتئاب والقلق والتوتر وما إلى ذلك. وما أغنية الفنان الذري إبراهيم عوض (حبيبي جنني) إلا ضمن هذا السياق، وكذلك أغنية (طار عقلي) من أغاني الحقيبة. { وعن ارتباط المرض النفسي بالعوالم الغيبية وعوالم الشياطين والجن والسحر الذي شكل تربة خصبة للتراث السوداني.. نجد الفنان محمود عبد العزيز يقول: تضوي كالبلور من بنات الحور أنا ما عيان سوُّوا لي بخور وهذه الأغنية تحديداً تشابه إلى حد كبير إحدى قصائد العصر الجاهلي، حيث يتحدث الشاعر - الذي كان متيماً بإحدى النساء - بأن أهله ظنوا أن محبوبته (عملت ليهو عمل)، أو (سحرتو)، فقاموا بعرضه على الكهنة والعرافين، ولكنهم لم يتمكنوا من علاجه بسبب شدة حبه لها، وهذه هي الأبيات للمقارنة: جعلتُ لعرّافِ اليمامة حكمهُ وَعَرّافِ حَجْرٍ إنْ هما شَفيانِي فَقالاَ: نَعَمْ نَشْفِي مِنَ الدَّاءِ كُلَّهِ وقاما مع العُوَّادِ يُبتَدَرانِ ودانَيْتُ فيها المُعْرِضُ المُتَوَانِي لِيَسْتَخْبِرانِي. قُلْتُ: منذ زمانِ فما تركا من رُقْيَة ٍ يَعْلمانِها ولا شُرْبَة ٍ إلاَّ وقد سَقَيَانِي فما شفا الدّاءَ الّذي بي كلّهُ وما ذَخَرَا نُصْحاً، ولا أَلَوانِي فقالا: شفاكَ اللهُ، واللهِ ما لنا بِما ضُمِّنَتْ منكَ الضُّلُوعُ يَدَانِ { وجمعة مباركة..