وبعض قضايا مضاربنا وريفنا الحبيب تحتاج لأسامة أنور عكاشة ليجعل منها دراما سودانية تمشي على ساقين، والريف هو الذي يصنع المدينة، فالمزارعون هم الذين يوفرون «لملجة الخضار» كل مستلزماتها من الخضر والفاكهة الطازجة، ثم يمدون «سلخانتها» بالخراف والعجول، فضلاً عن الحبوب والتمور وكل المنتجات الزراعية، ثم بثمن هذه المواد الطازجة يعمرون متاجر المدينة عندما يشترون كل متطلباتهم من الأقمشة والسكر والزيوت وغيرها، غير أن الريف هو في معظم الأحيان يدفع «رواتب أفندية المدينة»، يدفعونها عن يد وهم صاغرون من العشور والضرائب والزكوات، حتى بصاتنا ولوارينا لما تعبر المدينة تدفع «ثمن هذا العبور»، وصاحب هذه الملاذات ينتمي إلى الأحزمة الريفية التي تتسور مدينة بربر التاريخية، ولم نستنكف يوماً عن أن نسدد فواتير مدينتنا الفاضلة، على اعتبار أن مدينتنا بمثابة عنوان وديواننا الكبير الذي كلما ازدان بالخدمات تزدان دواخلنا وتزداد فرحاً وتشريفاً، وأذكر لما خلا كشف «أبناء مدينة بربر» ورابطتها بالخرطوم من أسماء الكوادر الريفية التي تساهم بفعالية في نهضة المدينة، فقد كتبت يومها أننا الأقل قد تجاوز إسهامنا «السلع التقليدية» لتقديم «المقالات الحسان» من المركز لتنشيط ذاكرة المسؤولين للالتفات إلى المدن الريفية حتى تتزن تنميتنا وتتوازن نهضتنا وذلك لنتفادى ثقافة «ترييف المدن». لكن المدينة «تنشلنا»، المدينة تسرقنا، المدينة تستغفلنا، المدينة تغدر بنا وتحط من أقدارنا..! فبالأمس حلّ علينا خالنا «عبدالله علي البلولة» بالخرطوم وهو يحمل «أمر قبض» لثلاثة تجار مجرمين هربوا من عدالة مدينة بربر إلى الخرطوم، وتبدأ هذه القصة المؤلمة بأن التاجر الأول قد تسلم من الخال الضحية «مائة أردب تمر» بغرض تصريفها، والآخر أخذ ثلاثين «أردب فول»، والثالث ما بين الفول والبلح، وأن ثلاثتهم أناس معروفون بمدينة بربر وينتمون إلى أسر عريقة، ولكن كانت المفاجأة أنهم قد تركوا مدينة بربر بعد أن صفوا أعمالهم وجاءوا إلى الخرطوم بغرض الاختباء، ولو أننا تجرأنا بنشر أسمائهم لقامت الدنيا ولم تقعد، لكونهم ينتمون إلى «بيوت كبيرة» في مدينة بربر، لكننا إن أعيتنا الحيل وتقطعت بنا السبل فسنضطر في خاتمة المطاف إلى عمل التحوطات القانونية لكشف أمرهم! لقد ظل هذا المزارع المظلوم ولمدة عام كامل يتردد على المحاكم والنيابات ويجوب المدن والأرياف حاملاً «أمر قبض» في مواجهة أناس مجرمين يعرفون جيداً تراجيديا الاختفاء والهروب من العدالة، فلقد تعطلت «مصالح الرجل» وهجر مزارعه وترك أولاده وتعطل إنتاجه وهو يلاحق هؤلاء المجرمين، والذي يؤلمك أكثر أن ذويهم لم يحركوا ساكناً، وحتى ممتلكات إخوانهم الفارين التي تركوها وراء ظهورهم قد تحولت بقدرة قادر من أسمائهم! لم تعد هذه القضية قضية خاصة، إذ أن الوطن سيخسر كثيراً إذا تحول المزارعون المنتجون إلى مخبرين يحملون أمر قبض يجوبون المدن والبنادر، تاركين وراءهم «الأرض البور» وأن فرص إنتاج مئات الأرادب من الفول والقمح والتمور تضيع هدراً، وربما أيضاً يستفيد الآخرون الذين لم يقعوا بعد في مثل هذه الشباك. مخرج.. أمام مدينة بربر خيار واحد.. أن تلفظ هؤلاء المجرمين وتسقطهم من سيرتها البازخة وتاريخها الباهر.. مخرج أخير.. وغرضي أن ما انقضى خلى دار جعل تنهد!