يرمي بنظرة مطولة، تلاحق رجلاً من عامة أهل قريته، دون أن يدعه يفلت منه أو يشيح هو عنه، والنظرة المطولة ترسل إشارات بالغة الحساسية لما تحمله من طاقة هائلة، تتفكر في حياة الرجل وتبحث عن إجابات تفسر بعض مظاهر تلك الحياة ومواقفها الغريبة التي تجد الاستهجان من كافة أهل القرية، دون أن تحرك هذه الثورة الاجتماعية العارمة شعرة في جسد الرجل. النظرة المطولة بجانب عصفها تحمل مشاعر من الغيظ والاستهجان والاشمئزاز والحسرة، وتفقد ما بين عصفها ومشاعرها بعض تركيزها وهي تقارن بين الرجل وآخرين من أهل القرية، هم على النقيض من حياة الرجل، لا تفصل بينهم ومثالية الحراك الاجتماعي غير شعرة واهية فتجدهم يحسنون القول والفعل ويتأدبون بأدب أهلهم في القرية وعرفها وقيمها وحكمتها فيبتعدون عن كل ما هو شاذ وقبيح ويقتربون من الخير والحق والجمال. تنتهي النظرة المطولة بغياب الرجل عند أول منعطف فينتقل الناظر بكل جثته مشيحاو كأنه قد أمسك بصيد ثمين فتتمدد شخصية الرجل أمامه وقد دمغت صورته داخل ذهنه بكامل لحمه وشحمه ومواقفه وتصرفاته، كأنها كتاب يقلّب صفحاته وهي حيّة تجري أمامه وحراك القرية يجري موازياً لمسيرة الرجل فتتطابق بعض الصفحات وبعض الأسطر وهي تسمي آخرين يماثلون الرجل في وجه الغرابة وسوء المعاملة واستهجان الناس واشمئزازهم وغبنهم وحسرتهم بالرغم من تباين الأدوار الاجتماعية الرخيصة التي يسودون بها صحائف البشر ويقدمون نماذج سيئة لأناس يعيشون بيننا نحتملهم حيناً وقد نعجز في أحايين أخرى، فنواجههم ونلعنهم جهراً أو همساً أو بقلوبنا وذلك أضعف الإيمان. النماذج تدفع بصاحب مال وثروة وتسميه مماثلاً لذلك الرجل الذي أطبقت عليه تلك النظرة المطولة وهو يحرم حتى نفسه من ماله وثروته ويصبح مجرد (حارس نعمة) سيتركها غداً وراءه، لا هو ينفق منها على أهله وعشيرته أو يصلح من أحوال أقاربه امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله) ولا هو يسهم أو يشارك الآخرين من هم أقلّ منه مالاً في مشروعات القرية وفعل الخيرات، فتجد صاحب القليل أوفر سهماً وأكثر حضوراً منه في الملمات وعند المواقف الكبيرة. النماذج نفسها تكشف عن صاحب علم ووظيفة ولكنه بطبعه الغريب ولؤمه تجده دائماً يصنع مشكلة أمام كل حل، حتى أضحى هو المشكلة فيتردد كل فرد من أهل القرية قد تحمله خطواته إلى هذا اللئيم خشية رده والإساءة إليه حتى وإن كان الحال يفرض عليه الاستجابة والتعاون والإسهام. النماذج السيئة كثيرة وكلها تفضح مواقف بعينها، يتواضع أصحابها وتتراجع عندهم القيمة الاجتماعية إلى أدنى مستوياتها وتهبط، فمنهم من يعرض عن أقاربه ويتركهم لعوزهم وحاجتهم والمال بين يديه يفيض ويزيد ومنهم من يحمله لؤمه لاعتراض كل خطوة ترسل خطوها نحو الخير ومنهم من يمشي بين الناس بساقط القول والعمل والنميمة والباطل ومنهم من لا يعمل ولا يترك الآخرين يعملون ومنهم من تسوءه نجاحات الآخرين وحتى سلامتهم في أبدانهم وأموالهم وعلمهم ومواهبهم ومنهم من يبخل بالطعام ويفسد الوئام ويتحاشاه الأنام ومنهم ومنهم ومنهم... يقطع زفير حار على صاحب النظرة المطولة نظرته وهي تنتبه لعودتها من عالم النماذج السيئة من أهل القرية وهي تطابق بين رجل تعصفه وتشخّصه وهو يخطو أمامها لثوان وبين رفاقه في عالم السوء من داخل القرية وهو يعلم أن (السوء) هنا هو مجرد الخروج عن المعاملة الحسنة للأهل من الدرجة الأولى ومن يليهم والجيران ومن يليهم وعامة أهل القرية وأنشطتها ومشروعاتها العامة وحراكها وهي لعمري نظرة تبحث عن الخير وتشمئز وترفض كل خروج عن النص الاجتماعي المستند إلى فطرة سوية وسليمة وعاطفة جياشة تمنع صاحبها من أن يقسو على أخيه الإنسان.