• لدي إحساس قديم ينتابني كلما اتجهت شرقاً وقد حدث لي ذلك مؤخراً وأنا أسلك طريقاً ترابياً يشق أرض البطانة في اتجاه الشرق. ويحدث كلما سلكت الدروب في اتجاه مدن الشرق الحبيب كسلاوالقضارف وبورتسودان، وذلك الإحساس الذي ينتابني هو (الصعود) فكلما اتجهت شرقاً أشعر وكأنني أصعد، ولذلك أتقبل ومن الدواخل عبارة أعالي نهري عطبرة وسيتيت ما دامت هي في أقصى شرقنا الحبيب، ولعل لكل ذلك علاقة بتلك الأنهار المندفعة من الشرق إلى الغرب وفي مقدمتها الأزرق والقاش وعطبرة وسيتيت، أو لذلك علاقة بمكانة الشرق في دواخلنا وكأنه نجم بعيد ضواي وكما يردد أهلنا دائماً (شرق الله البارد)، ومثلما يقدس حجاج غرب أفريقيا أرض السودان لأنها مسلكهم إلى بيت الله الحرام وهي كذلك مسافة في اتجاه القبلة شرقاً؛ ننظر نحن للشرق بهذا المقام الرفيع. • من الدمازين طرنا إلى موقع يجمع بين سدين تجمعهما بحيرة واحدة ستحصد ثلاثة مليارات ونصف المليار متر مكعب من المياه عند أعالي نهري عطبرة وسيتيت بولايتي كسلاوالقضارف، والمشروع نفسه أكمل إنشاء جسرين ستعبر بهما حركة نشطة كانت بالأمس تنتظر حتى ينجلي الخريف ويعاود الناس وصالهم وحراكهم وتجارتهم ومصالحهم. • ما يميز مشروع سدي نهري عطبرة وسيتيت هذه الثنائية العجيبة التي تقوم على نهرين وسدين وولايتين وجسرين، وهذا يكشف عن (شطارة) شباب السدود وهم يصطادون كل عصفورين من كل نوع بحجر واحد، وقد كانت القضارف بواليها حاضرة، وكسلا بالوزير الأول الشاب الذي خدم كسلا لأكثر من عشرين سنة دون أن يطلب الوزارة ذلك الشيخ الورع عبد المعز وزير التخطيط العمراني، وقد كان الرجل حاضراً ممثلاً لحكومته. • هبطنا بمطار الشواك وهو هدية وحدة السدود لولاية القضارف التي تعتزم مستقبلاً تصدير إنتاجها الحيواني والزراعي لا سيما أنها ولاية منتجة وفي ذات الوقت يدعم المطار أنشطة تشييد السدين ويحقق وضعاً لوجستياً جيداً لقواتنا الجوية، وهي تستفيد منه في تأمين هذه الجبهة من البلاد، كما يشكل احتياطياً خلفياً لمطار كسلا، ويبلغ طول (الرانوي) كيلومترين ونصف الكيلو. • سيضيف مشروع سدي أعالي نهري عطبرة وسيتيت للشبكة القومية (360) ميقاواط كما يعيد إلى مشروع حلفاالجديدة الزراعي (60%) من الأراضي التي خرجت منه بسبب عدم توفر مياه الري، كما أنه سيروي مشروع أعالي نهر عطبرة الزراعي بجانب إضافاته المقدرة للثروة السمكية بالإضافة إلى كل ذلك فإن قيام السد على نهر عطبرة يعالج مشكلة مزمنة كانت هي وراء توقف سد خشم القربة بسبب الأطماء التي اخترقت التوربينات وأمسكت به في خمس سنوات فقط وعطلته ولهذا فإن الفكر المتقدم الذي يطرحه (شباب السدود) يضع حداً لهذه المشكلة وفق التقنية التي تدخل في هذين السدين وهي تعالج كميات الأطماء القادمة مع مياه النهر قبل أن تصل إلى سد خشم القربة وتمنح هذه المعالجة الهندسية ما بين خمسين إلى مئة سنة كضمان لسلامة السدين من الأطماء بدلاً عن تلك الخمس العجاف. • الأعمال في هذين السدين قطعت أشواطاً مقدرة في الردميات والأعمال الخرسانية وكافة التجهيزات التي تجري في بيئة ومنطقة بالغة القسوة ولكن رويداً رويداً سيتحول الوضع إلى منارة من منارات البلاد لا سيما أن الشركة الصينية المنفذة للمشروع هي من ضمن الشركات التي نفذت أكبر السدود على الأرض وهو سد الصين الذي يعد إضافة جديدة لعجائب الدنيا وينتج هذا السد (22) ألف ميقاواط. • بفضل هذين السدين سيتحول نهرا عطبرة وسيتيت إلى نهرين دائمي الجريان بعد أن كانا نهرين موسميين ينقطع جريانهما بعيد الخريف بأيام مما يعرض مليارات الأمتار المكعبة من المياه للضياع وعدم الاستفادة منها وهي مياه لا تحكمها اتفاقيات ولنا كامل التصرف فيها وتوظيفها بما يحقق المصلحة العليا لبلادنا. • عدنا إلى الخرطوم عند السابعة والنصف مساء بعد نهار حافل بالأرقام التي تسرّ النفس وتجعلها تحلم وتتخيل الغد الجميل والرفاه الموعود إن سارت الأمور على هذا المنوال لا سيما أنه يصب في استغلال موارد البلاد الحقيقية التي ستقوم عليها نهضتنا الموعودة بإذن الله.. والله المستعان.