تقول الرواية القديمة - ويقال إنها أكثر انتماء كرواية تاريخية إلى مصر القديمة من أي بلد آخر - إن حريقاً شبّ في أحد الحمامات العامة التي كان الرجال يؤمونها طلباً للاستحمام والاستجمام معاً. ولمّا بدأ الحريق بالغرف الداخلية وانتشر الدخان هرب معظم الرجال بجلودهم من لهيبها، عراة من كل شيء، الملابس والحياء والشجاعة! أما الذين خجلوا من الخروج عراة وتجلدوا في وجه النار، فماتوا! (الاختشوا ماتوا)، وأصبحوا مثلاً للمتمسكين بقيم تتنافى مع حكم الضرورة. وضرورة الأمثال في اعتقادي، أن تخدم زماناً غير زمانها الذي قيلت فيه، لهذا أجدني محشورة في أنف هذا المثل لأخدم مضمون هذه الكتابة ولو من بعيد، فقد خرج كمايكروفون ذات نهار حار- كاليوم - يصرخ محدثنا فيه بالخروج لنفرة نظافة عامة تحشدها اللجنة الشعبية المنتخبة الجديدة، التي لحسن حظنا النهاري أنها ذات القديمة لمعظم الأحياء، إنما بمظهر جديد فقط! ويظل يصرخ طوال ساعات داعياً الشباب إلى الخروج إلى تلك النفرة الكبرى فالخريف على الأبواب... إلخ. ثم بعد حين ليس بقليل لم نعد نسمع سوى حشرجة الصوت الصادر من خشخشة السلك الموصول مع بطارية العربة مع احتكاكه بشيء ما! وخشينا على صوت الرجل من البحة المؤلمة بلا فائدة، وخشينا أكثر من أن يكون الشباب مفقودين في صحراء بعيدة عن الحي، فلم يجب واحد منهم دعوة اللجان الشعبية إذ دعتهم..! لكن أكبر خيبتنا أنه ومنذ ذاك النداء ما تزال الأوساخ والمجاري والميادين بذات صورتها القديمة بلا مظهر جديد من نفير لم يأته أحد! وحدة الجرح في حقيقة أن الناس في بلدي أصبحوا يلقون على مؤسسات الدولة كل عبء ثم يلتقون على انتقادها كل مساء في ناد متهالك المقاعد على صبر العجز والفقر واللامبالاة. أما الحكومة التنفيذية التي تمثل الدولة حالياً فتنفق ما شاءت من ميزانيات صرفها على ورق الحائط الذي يغطي بأشكاله حقيقة الحائط المتهالك أيضاً على سوء التخطيط والتوزيع والمهام. ما مهمة اللجنة الشعبية؟ التي أطلق السيد الوالي يدها وملّكها حصانة دبلوماسية وجعلها ممثلاً لشخصه المهم داخل كل حي؟ هل هي استخراج الوثائق السكنية أم الرقابة على بيوت الحي المشبوهة ووضع سقف لا يتخطاه أصحاب البيوت في إيجارها أم مراعاة حقوق المواطنين قبل المطالبة بالواجبات؟ أم إيجار مايكروفون للدعوة المفتوحة بإغواء من أغنيات الحماسة و(دخلوها وصقيرها حام) و(الجري ده ما حقي) لخدمة حيّك ولجنتك الشعبية التي تنتظر مكافأة السيد الوالي المالية القيمة، مناصفة مع خمس لجان أخرى تحفيزاً لأدائها في الحي الذي تمثله عن إنجاز لم تقم هي به! هل هي مهمة مستحيلة تتطلب كل هذا الخوف من إنجازها بما ملكت أيديهم من أموال شهادات السكن والنفايات... إلخ؟ إن نفي حقيقة أن النظافة مهمة المواطن الأولى، قبل الحكومة، مهما بلغت قدرتها الولائية أو الاتحادية لميزانية لا محدودة لذلك، هو نفي يتطلب شجاعة الخروج عارياً أمام الناس ثم الضحك على الاختشوا! أما إثبات أن المحليات - وبالذات محلية الشهداء جنوبالخرطوم - ليست مقصرة في واجبات التخلص من النفايات وإدارة المرافق العامة من مجار ومراكز صحية وحتى لجان شعبية إنما تشبه حالة انتظارك حياً النجدة رغم تذوقك لرائحة حريق جلدك وشعرك في حلقك كي لا يشير الناس ضاحكين إلى عورتك! أما الوضع السليم الذي يصحح الموازنة بين خياري الموت أو العري، فهو إما أن نحترق معاً - مواطنين ولجاناً شعبية ومحليات - مع أوساخنا ونموت، وإما أن ننجو بنظافتها ونظافتنا معاً، ليصير المثل لأزمان قادمة أن (الاختشوا نظفوا أوساخهم بأيديهم)!