يقوم الرئيس عمر البشير صباح اليوم (السبت) التاسع من يوليو، بإنزال علم السودان بألوانه المعروفة عن سارية عاصمة جنوب السودان، اعترافاً بقيام دولة جنوب السودان الجديدة، بعد أن صوت لها أكثر من (99%) من الجنوبيين في استفتاء أجري في يناير الماضي. ورغم المناخ الاحتفالي الذي ستتسم به مراسم إنزال العلم السوداني وعزف النشيد الوطني لآخر مرة؛ إلا أن أجواء الحزن تخيم على السودانيين الشماليين لانفصال نحو (25%) من أراضيه، ويحملون مسؤولية ذلك لفشل النخب السياسية والحكومات المتعاقبة منذ استقلال البلاد في العام 1956م، ولا ينسون إلقاء اللوم على شريكي اتفاقية السلام (المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال والحركة الشعبية المسيطرة على الجنوب)، واعتبارهما الطرفين اللذين يتحملان بشكل مباشر تحقيق انفصال الجنوب على أرض الواقع. كما يتسبب الانفصال في إثارة قلق العديد من الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال، وكذلك الشماليين الذين يعيشون في الجنوب، وإن كانوا سيعاملون كالأجانب في ما كان يوماً موطنهم الأصلي، ورفضت الحكومة هنا استمرار حمل الجنوبيين للجنسية السودانية، لكنها أمهلتهم (6) أشهر، كما قامت بتسريح (15) ألف جندي وضابط جنوبي في الجيش السوداني، إضافة إلى كافة العاملين في الخدمة المدنية بالدولة، وأصدرت وزارة العمل منشوراً يقضي بالتعامل مع الجنوبيين العاملين في القطاع الخاص باعتبارهم أجانب. ومع أن الجنوبيين هم الذين صوتوا في استفتاء تقرير مصيرهم، يبقى من المثير للدهشة، أن كثيراً منهم لا يبدون سعداء. إذ أن الأنباء القادمة من جنوب السودان تشير إلى حالة من الحذر والترقب تسيطر على المواطنين هناك، وأن الأجواء الاحتفالية لا أثر لها إلا في الدوائر الحكومية ودور الحركة الشعبية، بينما نقل الصحافيون عن مواطنين في مدن وأرياف؛ مخاوف وأسئلة بشأن المستقبل في ظل توترات أمنية تشهدها بعض المناطق جراء المواجهات المسلحة بين الجيش الشعبي ومنشقين عنه أبرزهم اللواء جورج أطور الذي هدد في بيان قبل أيام فقط من إعلان استقلال الدولة بتخريب احتفال السبت، واتهم قادة الحركة الشعبية بخيانة زعيمها الراحل جون قرنق، ووعد بتحرير الجنوب من سيطرة قيادة (الحركة) والقيام بهجوم على المدن الجنوبية. والعالم أيضاً مشغول؛ إن كانت الدولة الوليدة تستطيع الانطلاق مع تنبؤات بالفشل لعدد من المحللين الدوليين، بالنظر إلى التحديات الأمنية والاقتصادية وعلاقات الجنوب المستقبلية بالشمال. والمخاوف ليست فقط على الجنوب، فالشمال يواجه أيضاً تحديات تبدأ من علاقته بدولة الجنوب على صعيد التعامل مع قضية النفط، والترتيبات الأمنية، والأصول والديون الخارجية، والحدود المختلف حولها، وقد فشلت مفاوضات بين الخرطوم وجوبا حول ترتيبات ما بعد انفصال الجنوب استضافتها أديس أبابا الأسبوع الماضي، وأُرجئت إلى ما بعد إعلان الدولة الجديدة. وأخطر من ذلك - يقول المراقبون - أن انفصال جنوب السودان يفتح الباب أمام مناطق أخرى في الشمال من أجل المطالبة بحق تقرير المصير، خصوصاً إقليم دارفور الذي يشهد أزمة منذ سنوات، إلى جانب تململات الشرق وأقصى الشمال، وبالتالي فإن احتمال تقسيم السودان – أكبر دولة أفريقية سابقاً - إلى أجزاء شتى، يبدو غير بعيد في تحليلات المراقبين. كذلك، يواجه الشمال تحدي التعامل مع قضية القوات التي كانت تتبع لجيش جنوب السودان في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وموقف الحكومة من مؤيدي الحركة الشعبية في الشمال، كما أن للانفصال تداعيات بالغة على الاقتصاد بالشمال أقر بها المسؤولون في أكثر من مناسبة، خاصة بعد خروج عائدات نفط حقول الجنوب من الموازنة العامة، إلى جانب الترتيبات الدستورية والسياسية الجديدة، في ظل حوار متقطع تجريه الحكومة مع قوى المعارضة في الشمال. في وقت ما تزال قضية أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب «قنبلة موقوتة» رغم الاتفاق الذي جرى بشأنها الشهر الماضي في «أديس أبابا» وقضى بسحب الجيش السوداني من المنطقة ونشر قوة إثيوبية تعدادها (4200)، بيد أن تبعيتها لأي من الطرفين لم تحسم. مع كل هذه المخاوف، هناك دائماً بصيص من أمل ليس في وحدة مستقبلية كما يزعم البعض، وإنما في سيناريو يعتبر الأفضل لكليهما، لكنه قد لا يكون من السهل تحقيقه، وهو أن يقوم الطرفان الحاكمان باحتواء مشكلاتهما الداخلية، واستيعاب التنوع داخلهما، وأن يتخلى كلاهما عن تحريض حلفائه في الطرف الآخر كأوراق للضغط عليه، وأن يلعب الدور الإقليمي والدولي دوراً مهماً في هذا السيناريو. وفي تقدير المراقبين أنه ينبغي أن يكون جوابنا واضحاً وإيجابياً، أن ليس أمام الشمال والجنوب بديل آخر سوى التعاون، وأن يكون الاتجاه للتعاون لا رجعة فيه، وذلك بتشجيع رغبة البلدين في تجاوز الخلافات والاستفادة المتبادلة، فعملية التعاون بينهما ضرورية؛ إذا نظرنا إلى عائدات النفط والتجارة الحدودية، فضلاً عن العلاقات الاجتماعية الممتدة. كيف؟ النقطة الأولى هي أن المساواة والاحترام يحددان إلى أي مدى يمكن أن يبلغ التبادل الثنائي. ليست العلاقات منذ بداياتها علاقة بين طالب ومطلوب، أو علاقة تبعية، لكن يشكل الالتزام بسياسة واحدة، واحترام كل منهما المصالح الجوهرية والهموم الرئيسية للجانب الآخر؛ يشكل الأساس لتحقيق تطور مستقر ومستمر لهذه العلاقات. النقطة الثانية هي أن الثقة المتبادلة تحدد حجم المنفعة المتبادلة، التي يمكن أن تحققها العلاقات الثنائية. إن شكوكاً لا أساس لها ليست غير ضرورية فقط، وإنما ضارة جداً للتعاون الثنائي. النقطة الثالثة هي أن موقف التسامح يحدد مدى فعالية معالجة الخلافات بين البلدين. كما هو الحال في أية علاقة ثنائية، وذلك يشبه اختلاف طول الأصابع العشر. عندما تسير العلاقات بين الجانبين على ما يرام، علينا أن ننظر إلى هذه العلاقات بنظرة طويلة المدى، وأن نكون مستعدين لمواجهة الصعوبات المحتملة. وعندما تتعرض العلاقات للصعوبات، علينا أن نضع نصب أعيننا المصالح المشتركة العليا للبلدين، وألا نسمح لأية مسألة فردية بعرقلة تعاوننا الشامل. طالما نفهم هذه النقاط فهماً كاملا، ونتخذ خطوات ملموسة لتطبيقها؛ نستطيع أن نتعامل مع مجمل العلاقات بين الشمال والجنوب، وتيارها الرئيسي بصورة جيدة، ونمضي قدماً في تطوير التعاون الثنائي بمزيد من الثقة والمثابرة، وبخطوات أكبر، وعلى الأقل يمكن أن نقول للذين أصابهم الحزن لانفصال جزء كبير من البلاد: «لا تبكوا فإن بالمستقبل إشراقاً».