{ لعمري أنه أقسى أنواع الجحود على الإطلاق، له طعم الحنظل ووقع السهام في قلب الوالدين، وما أكثر ما استشرى الآن بيننا. وكم من أب وأم يعانون الأمرين من إهمال أبنائهم وإعراضهم وغيابهم، دون أن يستطيعوا الغضب عليهم، فقلب الوالد لا يعرف سوى المسامحة ولسانه لا يتقن إلا العفو والدعاء. { ولكن، تابعت مؤخراً تفاصيل واقعة غريبة تمثل جحود الأبناء بصورة مجردة ومؤلمة تستدر الدمع وعلى رؤوس الأشهاد، وها هم الأبناء يكيلون لوالدهم السباب ويطالبونه بحقهم في «الميراث» وهو حي يرزق! فأي منطق هذا وأي أبناء أولئك. العياذ بالله. { والحقيقة، إن هذا الوالد لم يأل جهداً طوال حياته حتى تمكن من جمع ثروة مقدرة بإمكانها تأمين مستقبل هؤلاء الأبناء الجاحدين بكل عقوقهم هذا، ولكنهم لم يطيقوا صبراً في انتظار ما تسفر عنه الأيام بأمر الله، فقرروا أن يأخذوا حقهم المزعوم عنوة واقتداراً متناسين أن هذا الموت قد يكون من نصيب أحدهم في تلك اللحظة تماماً! { لينتهي بهم الأمر على متن عربة «النجدة والعمليات»، إذ لم يجد شهود العيان أفضل من ذلك التصرف ليحموا الأب من ابنيه وهما في أوج انفصالهما ويأتيان بتصرفات غير لائقة، مطلقين عبارات نابية وكأنهما لم يكونا حينها في وعيهما! { والأب المسكين يحاول الدفاع عن نفسه مذكراً إياهم بالسنين التي أمضاها في تربيتهما والإنفاق عليهما غير أن الواضح أنه قد أخفق في تلك التربية من فرط دلاله والعيش الرغيد الذي كان يهيئ لهما كل أسبابه. { فهل لاحظتم معي أن جحود الأبناء هذا ارتبط دوماً بالغنى؟ أم أنني وحدي أشعر أن الفقر يجعل الأبناء أكثر تهذيباً واعتدالاً؟ ربما لأنه يوحّد القلوب ويجمع الأسرة دائماً مع بعضها البعض فتكون المودة والرحمة متوفرة عند الحاجة. أما أبناء «الراحات» فهم قد ولدوا وفي أفواههم معالق من ذهب، كل ما يريدونه متاح، وكل طلباتهم مستجابة مع غياب الرقيب والوازع الاجتماعي، حتى إذا شعروا بالحرمان يوماً هبوا مطالبين بما اعتادوا على وجوده حتى اعتبروه حقاً مشروعاً وأمراً مفروغاً منه دون دراية منهم بما يجوز وما لا يجوز. { أسوق هذه الواقعة لأشير لأمر صغير ألا وهو أنك إذا أردت أن يبرّك أبناؤك ويقدرون أبوتك أو أمومتك فليس أقل من أن تحسن البر بهم في تربيتهم، فلا يُعقل أن تعفي أبناءك من مسؤولياتهم ولا تكترث لأمرهم وتجعل بينك وبينهم بوناً شاسعاً ثم تشكو من جحودهم وعقوقهم بعد ذلك! { وللعلم فإن الأم تلعب دوراً كبيراً في ممارسة أبنائها لذلك الجحود المعلن، كيف لا وهي تمعن في المدارة عنهم وإخفاء أخطائهم وتوفير كل ما يلزمهم دون علم الوالد ثم تكون هي بعد ذلك أول المتضررين والضحية الأولى في مسألة الجحود هذه. { إذن، علمي أبناءك البر، واجعلي والدهم في الصورة دائماً، وأكدي لهم دائماً كم هو أب رائع ومتعاون وكريم، ثمني دوره في الأسرة، وباركي تضحياته لأجلكم وإن كانت قليلة، وابتعدي قدر الإمكان عن التحزب ولا تحاولي أن تجعلي من أبنائك كتيبة أنت قائدها ووالدهم عدوها، فذلك لن يجديك نفعاً حين تبدأ معركة الجحود هذه حالما يشب أبناؤك عن الطوق ويبدون في تبخيس معنى والدهم في حياتهم والخروج عن طوعه للدرجة التي تجعلهم يسعون للاستحواذ على شقا عمره أمام ناظريه. وعجبي. { إن شاء الله لي تسلم.. (أبوي).