الأبيض عاصمة إن (الأبيض) هي عاصمة كردفان، وكانت كردفان قبل التقسيمات مساحتها (386 ألف كيلو متر مربع) وهي بوسط جمهورية السودان غربي النيل، وتعد ثالثة مدن السودان وهي بلد ذات سهول رملية منبسطة وهي بلد قليلة المطر ولكن عندما تمطر تزدان بجمال عجيب يتغنى به الشعراء وبعد المطر تلبس المدينة حلة جميلة بلا أوحال لأن الرمال تخبئ المطر في أحشائها، وأثناء المطر يخرج الناس (ويقولون كيل كيل يا ميكائيل بالمد الكبير)، إيماناً منهم بأن الملاك ميخائيل هو المسؤول عن الأمطار أمام الله ومن عند الله، وكردفان منطقة رعوية جميلة تتكاثر فيها الثروة الحيوانية وتنمو، ويزرع فيها الذرة والسمسم والفول السوداني والقطن وتعد أكبر مناطق جمع الصمغ العربي وهي كما تقول الموسوعة العربية الميسرة الغلة التجارية بالسودان، وفي كردفان الكبابيش والبقارة، وقد أعلن المهدي سنة (1881م) بدء الجهاد من جبل قدير وهزم حملتين أرسلتهما الحكومة واستولى على الأبيض وبارا سنة (1883م)، وأمام قوة المهدي لم يجد غردون الإنحليزي وسيلة إلا أن يعلن المهدي سلطاناً على كردفان في فبراير (1884م) ولكن المهدي رفض لأنه يرغب في أن تشمل ثورته كل بلاد السودان وجاء حتى الخرطوم واستولى عليها في 26 يناير 1885م. ولقد عرفت عن (الأبيض) الكثير ومن أجمل ما عرفت عنها أنها موطن المواطن القبطي السوداني يوسف ميخائيل ذلك الرجل الذي عاصر التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان وكتب مذكراته المهمة في تاريخ السودان وهو لم يكن مؤرخاً ولم يقصد أن يكون مؤرخاً ولكن الظروف جعلته هكذا فلقد كان يدير مع شقيقه طاحونة في الأبيض وكان المفتش الإنجليزي يقصده دوماً ليسمع منه عن تاريخ المهدية والتركية وكان يحكي قصصاً ممتعة وذات مرة ذهب المفتش الإنجليزي إلى نواحي كردفان وغاب يومين ورجع ليمر على أقسام البوليس ففوجئ بأن وجد يوسف ميخائيل وزوجته وكان السبب في أنه ضبط في حملة خمور ووجد عنده عرقي بلح وعرض الأمر على القاضي الذي سمع لمرافعة زوجته بأنه مريض وأن هذا العرقي علاج وأن الخمر أساساً مهم لفم المعدة، وتشفع المرأة ولم يهتم القاضي بحيثيات مرافعتها فحكم على يوسف بالسجن لمدة شهر مع النفاذ وعلى زوجته لمدة شهر مع عدم النفاذ، وحاول كثيرون أن يخففوا الحكم ويحكم عليه مثل حكم زوجته ولكن القاضي أصر إصراراً، وهنا تدخل المفتش الإنجليزي وأحضر له في السجن أوراقاً وأقلاماً وقال له هذه فرصة لكتابة مذكراتك عن التركية والمهدية وكتب يوسف ميخائيل مذكراته وطبعها مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، تقديم وتحقيق دكتور أحمد إبراهيم أبو شوك، والذي سار على الشوك لكي يحقق هذه المذكرات المهمة، وقال إن هذا الكتاب سلط الضوء على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في كردفان قبل اندلاع الثورة المهدية في السودان ويعكس السمات العامة لذلك المجتمع الذي ولد فيه يوسف ميخائيل وعاش أيام صباه الأولى ثم يتناول طبيعة العلاقة السياسية الروحية التي نشأت بين الداعية الصوفي المهدي ونفر من أعيان مدينة الأبيض وصلحائها، وقد قال المهدي وأيضاً الخليفة التعايشي أجمل ما قيل عن الأقباط مواطنة وشهامة ومساندة للثورة المهدية، وكلما ذكر اسم يوسف ميخائيل يقولون جزاه الله والأقباط خيراً، وقد كتب لأحداث الثورة المهدية في كردفان بدءاً بهجرة المهدي إلى جبل قدير وانتهاء بحصار الأبيض وتحريرها على يد الأنصار، ويوثق الكتاب لفترة حكم الخليفة عبدالله التعايشي وما كانت تعج به من صراعات، ويعد هذا الكتاب مرجعاً مهماً فقد ذكر ما لم يذكره الآخرون وعلى الأخص في محاولات إمبراطور الحبشة وزيارته لإرساء علاقات طيبة بين البلدين، وقد زار يوسف ميخائيل البطريرك في مصر ليطمنئه على الأقباط، وقد قدم أبوه ضمن أربعين كاتباً من مصر ووزعوا على أقاليم السودان وكان من نصيبه الأبيض، ويبدو أن يوسف ميخائيل كان ملماً بخيوط اللعبة في السياسية والدولة المهدية، مما أكسبه ود الأمير يعقوب كما اختاره الخليفة التعايشي كاتماً لأسراره. أول زيارة كانت أول زيارة تمتعت بها إلى كردفان في عام (1965م) وكنت وقتها متخرجاً من كلية اللاهوت في مصر والتي تسمى الكلية الإكلريكية وذهبت إلى هناك لتقديم بعض عظات في كنيسة الأبيض وقد وهبني الله هذه النعمة وامتلأت الكنيسة بالناس وضاقت مساحتها بالحاضرين فقرر أعضاء الجمعية القبطية توسيع الكنيسة وبدأت الإجراءات أثناء حضوري وكانوا مصممين على أن أحضر وضع حجر الأساس تكريماً لي ولعظاتي التي جذبت كثيرين وكانت جمعية الأبيض القبطية تضم رجالاً أقوياء وتجاراً ناجحين من بينهم برسوم ملطي مؤسس نادي الخريجين بالأبيض وبوندي مرقس وصليب طوبيا وطلعت بولس وحكيم سلامة وكان العم أيوب ميخائيل ناظر الكنيسة ومهتماً باحتياجاتها وقد استقبلني في بيته أكثر من مرة، ووجدت نفسي موضع حفاوة الجميع رغم صغر سني وكنا في كل وليمة نناقش أموراً روحية ونحفظ الترانيم مع الأطفال، وفي كل ليلة نقيم لقاءً روحياً في الكنيسة في حضرة كل الناس تقريباً، ولقد دعيت لزيارة أغلب بيوت الأبيض مرعي ميخائيل وسعد ميخائيل وحلمي روفائيل ومصيح القمص وهو خريج كلية لاهوت ولكنة لم يرسم كاهناً فلقد اعتذر عن هذا وحتى الآن أحتفظ بأجمل الذكريات عن كردفان الجميلة الحلوة بلد الخير والنعمة التي كانت ولم تزل مركزاً تجارياً كبيراً يربط كل بلاد الغرب معاً وكان باسيلي بشارة هو أول من مهد طرقاً ومواصلات بين كل أرجاء كردفان، بدأ بسائق تاكسي ثم أعطاه الله ليكون أول من ربط البلاد بوسائل نقل كان يتابعها، أرجو لكل أهل كردفان الآن كل تقدم ونعمة وبركة وازدهار وإثمار وإكثار. وأذكر هنا هذا الرجل وقد أحاطني بعطفه واهتمامه وأسعدني بأبوته في رحلتي الأولى إلى الأبيض وكنت قد فقدت أبي ولما افتقدته وجدته في أيوب ميخائيل الذي عاش في كردفان حتى أنفاسه الأخيرة وجاء أبناؤه إلى الخرطوم ونجحوا في بناء اقتصاد السودان وهم الآن يديرون مصنع أيوب للبوهيات إكراماً لجدهم أيوب ميخائيل، وأقام أدوار أسعد التاجر الناجح مصنعاً للحديد باسم مصنع الأسعد تكريماً لأبيه الوقور المحترم وقد أخذت هذه الأسرة بركة جدهم أيوب ميخائيل وهم يقدمون كتاب جامعة الحياة إليكم وهذا الكتاب هدية من خريج جامعة الحياة أيوب ميخائيل إلى قراء العربية الأذكياء وإلى أبناء السودان الخلصاء وأهل كردفان الأتقياء وطن الخضرة والنماء.