الرجال والرمال: لقد أحببت مدينة الأبيض، وكانت زيارتي لها في أوائل عام 1965م، وحكى لي شعب الأبيض عن مدينتهم الجميلة، وفي كنيستهم الرائعة، كانت لي عدة عظات وندوات، واذكر أنني القيت عظة عنوانها بدون وعظ، وكانت عناوين العظات سبباً في جذب الكثيرين، لم يجلس قبطي في بيته أثناء العظات، كلهم شرفوني بحضورهم زرفات وجماعات، وشعر أعضاء الجمعية القبطية بالأبيض أن كنيستهم أصغر جداً من عددهم، وأعدوا العدة لتوسيع الكنيسة، وصمموا على حضوري، وكان هذا قبل رسامتي قساً، وكان الإسم سمير فرج، وفعلاً تمت كل الترتيبات ووضع حجر الأساس، وأسعدني الحضور، وكان الكل يشير إلى أن هذا الواعظ خريج كلية اللاهوت أعطى للحياة معنى جديداً، وأضفى جمالاً على جمال مدينة الأبيض، والتي هي الآن حاضرة ولاية شمال كردفان، بلد الرجال والرمال، والرمال ذهب أصفر رأيته كيف يستقبل الأمطار ويجعلها أمطاراً سعيدة بدون خسائر، وكأنك في أوربا أو أمريكا التي نظمت شوارعها لقبول الأمطار، وكردفان بلد الرجال، أنها بلد جبرة بطرس الذي يسمي باسمه حي جبرة، أنها بلد أسعد أيوب صاحب مصانع أيوب للبوهيات، ووطن أدوارد أسعد رجل الأعمال الناجح وصناعة الحديد، وبلد رفعت باسيلي التاجر الهمام، ووطن هلال سامي صاحب أكبر مصانع الحديد، وهي قبلاً وطن القبطي السوداني يوسف ميخائيل صاحب المذكرات التاريخية المهمة والتي تغطي جزءاً من تاريخ السودان لم يكتب عنه سواه، وهي بلد باسيلي بشارة الرجل العصامي الذي بدأ من مساعد على لوري إلى سائق تاكسي، ومنها إلى أكبر ناقل ما بين الأبيض وما بعدها من بلاد عديدة، وهي موقع برسوم ملطي مؤسس نادي الخريجين، وهي بلد بوندي مرقس، وحكيم جرجس، وفصيح القمص، وشنودة بولس، وهي وطن الإكليريكي واللاهوتي ناجي ونيس الذي يطل بتعبيراته اللاهوتية الدقيقة من قنوات التلفزيون، وأبونا القمص دانيال رزق السوداني في كندا. وهي أيضاً مسقط رأس التاجر الوجيه الخير عضو برلمان السودان جوزيف مكين، وهي بلد جندي بطرس، وبولس رزق الله، وزكي بطرس ورشيد جندي، وبوندي مرقس، وصليب طوبيا، وأوسكار رزق الله، ومكرم محارب، وأستاذ العربية القدير عبده بشاي، وقد أرسل إلينا الابن المبارك مايكل عادل سلامة ما يلي آتياً عن تاريخ مدينة الأبيض تاريخ الأبيض: مدينة الأبيض من المدن السودانية الكبيرة والمهمة وهى العاصمة السياسية والإدارية والتجارية لولاية شمال كردفان، وتحتل المرتبة الأولى في إنتاج الصمغ العربي (أكبر سوق صمغ فى العالم) والحبوب الغذائية كالسمسم والدخن والفول السوداني، والمرتبة الثانية في إنتاج الذرة الرفيعة بكل أنواعها، الى جانب احتكارها لمحصولى الكركدي وحب البطيخ، كما تحتل المراكز الأولى في السودان إنتاجاً للثروة الحيوانية. تعتبر (أبيض البقعة كما أطلق عليها المهدي)، ثاني مدينة سودانية من حيث التاريخ القومي بعد أم درمان، بل يعتبرها بعض المؤرخين في مرتبة واحدة مع مدينة أم درمان، ففي أرضها شبت وترعرعت الثورة المهدية، ودارت فيها أهم المعارك الحربية الفاصلة بينها وبين المستعمر (موقعة شيكان ابريل 1883م)، حيث سيطرت بعدها الثورة المهدية على بقية أنحاء البلاد . أصل اسم كردفان وكلمة كردفان في المصادر التاريخية على ثلاث صيغ: كردفال، كوردفان، كردفان، وأشهر الروايات المحلية قاطبة تعود إلى حاكم جبل كردفان الذي كان يدعى (كردم) أو(الكرد) والذى كان يغضب لأبسط الأسباب فيقال(الكرد فار) وفار تعني غضب وحُرِّف الاسم الى كردفال أو كردفان كما تسمى اليوم.. والرواية الثانية ترجع الاسم إلى النوبة سكان المنطقة الأصليين فيقال إنها كلمة نوباوية تم تحريفها من الكلمة كلدوفان ( وتعنى أرض الرجال) وتقع في وسط كردفان بين خطي عرض 13-11ْ ش، وطول 14-30ْ ق، ويبلغ متوسط إرتفاعها 1920 قدماً فوق سطح البحرن وتبعد حوالي 470 كلم2 ج .غ الخرطوم، وتقع بين مناخين مختلفين تماماً، إقليم شبه الصحراوي في الشمال وإقليم السافنا في الجنوب، مما جعلها ملتقى لطرق القوافل القادمة من الاتجاهين، ومركزاً يجذب إليه الرعاة من الشمال والمزارعين من الجنوب. والموضع الذي تقوم عليه مدينة الأبيض عبارة عن أرض سهلية ذات سطح مستوٍ مطمور تحت الرمال، عدا بعض التلال القليلة الارتفاع شمال شرق المدينةوجنوبها، والكثبان الرملية المتحركة في غربها. ارتبطت نشأة المدينة الأولى بوجود المياه في ذلك الموضع حتى أن اسم المدينة ارتبط بقصة تتناقلها الأجيال، وهي قصة اكتشاف الحمار الأبيض الذي تمتلكه امرأة عجوز تسمى (منفورة)، لمورد ماء وبعدها هاجر سكان القرى المجاورة وكانوا يقولون: (نحن ذاهبون لنسكن في مورد الحمار اللبيض) وأصبح الاسم السائر بمرور الأيام مع اختلاف التشكيل وفقاً للهجة السكان المحلية. وهناك رواية أخرى ترجع اسم الأبيض إلى المجرى المائي الذي يقع جنوبالمدينة، والمسمى بالخور الأبيض، إلا أن الرواية الأولى أكثر تناقلاً بين ألسنة المواطنين . ويرجع تاريخها المكتوب الى بداية القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت المدينة في بداية نشأتها عبارة عن مجموعة من القرى الصغيرة، وبمرور الزمن ومع ازدهار تجارة القوافل مع الجارة مصر خاصة في عهد مملكة سنار في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، أصبحت أهم ميناء صحراوي جنوب الصحراء، ولعبت دوراً مهماً في تجميع تجارة الجنوب والوسط واستقبال تجارة الشمال بعد عبورها الصحراء في نطاق البحر، وما وراءه من موانئ أوروبا، ويمكن اعتبار هذه الفترة هي بداية تاريخ المدينة الحديث. وقد بدأ ازدهار الحركة التجارية عام1870م، كان السوق القديم يضم أهم العناصر الإجتماعية والإقتصادية، ولكل سلعة مكان معين في السوق، فالجزء الأمامي مخصص لبيع الحبوب كالدخن والذرة الرفيعة بأنواعها، يليه سوق الجلابة (*)، ويجاوره سوق الماشية، سوق السقايين، ثم سوق النسوة، يجاوره سوق الحطب، وخصص جزءاً منه لبيع أمتعة الأجانب المغادرين للمدينة، أو المتوفين تحت إشراف قناصلهم، تقع بالقرب منه مخازن السوق، وفي الجهة اليمنى منه يوجد مقهى تمتلكه الحكومة (المقهى الوحيد في المدينة بل في كل إقليم غرب السودان) تمثلت صادرات السوق في: الصمغ العربي، سن الفيل، الجلود، ريش النعام، شمع العسل، الإبل والتمر هندي، الى أسيوط، التي شهدت في تلك الفترة أعظم فترات ازدهارها التجارى، بينما تمثلت الواردات فى: السكر، الصابون، التبغ، الشيلان، السجاجيد، عقود المرجان الحقيقي-المصنعة في مدينة البندقية- أساور وخواتيم الفضة، الأقمشة القطنية والحريرية، ورق الكتابة، الروائح العطرية والأواني الفخارية. وقد كانت العملة المتداولة في ذلك الوقت الريال الأسباني، إلا أن المعاملات في الأبيض ومدن غرب السودان، كانت تتم عن طريق المقايضة بالدمور والذرة، أما الصفقات الكبيرة فكانت تتم المقايضة فيها بالأبقار. وقام الأقباط بدور مشهود ومشكور في تطور التجارة بالأبيض، ونجحوا في الوصول إلى تخوم الغرب كلها، مثل كادقلي، ونيالا، والفاشر، والنهود، وأقاموا كنائس في بيوتهم كانت تغطي المناسبات والأعياد.