في صباح التاسع من يوليو 2011م اعتدل وزير السلام بحكومة الجنوب وأمين عام الحركة الشعبية باقان أموم أوكيج في جلسته داخل غرفته بفندق (New Sudan) بمدينة جوبا وبدأ يُصلح من ربطة عنقه الأنيقة استعداداً لمغادرة الفُندق إلى ساحة الاحتفالات الخاصة بإعلان جمهورية جنوب السودان الوليدة، وبينما هو يستعد للخروج مازحته زوجته الصُغرى الدكتورة سوزان ابنة أخت قائد الاستخبارات الخارجية السابق للجيش الشعبي إدوارد لينو بالقول: «خلاص ماشين تفصلونا؟!» انتحى الرجل القوي جانباً وبكى كالطفل الرضيع كأنه لم يبك من قبل، لكن زوجته هدأت من روعه وطلبت منه كفكفة دموعه والخروج من الفندق للحاق بالاحتفالات. بعد مرور (8) أيام بالتمام والكمال من إعلان الدولة الجديدة فجَّر باقان مُفاجأة من العيار الثقيل وأعلن تقديم استقالته من الوزارة مما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والوسائل الإعلامية في الشمال والجنوب، وأصبح خبر استقالته (مانشيتات) حمراء في الصحف السيارة وأجهزة البث الأخرى. وقال مصدر موثوق ل(الأهرام اليوم) إن استقالة باقان أموم ليست طبيعية وجاءت نتيجة لخلافات متراكمة بينه وبين قيادات الحركة الشعبية وعلى رأسهم رئيس حكومة الجنوب الفريق أول سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار منذ انعقاد المؤتمر العام الثاني للحركة الشعبية في مايو 2008م بمدينة جوبا، بعد أن اعتزم سلفاكير إزاحة نائبه مشار.. والاستغناء عن باقان أموم واستبداله بحاكم ولاية الوحدة تعبان دينق، وأكد المصدر أن قيادات الحركة الشعبية تعيش بنظرية الحفاظ على البقاء في ظل الأوضاع الملتهبة الراهنة. ورغم التسريبات بأن باقان أموم استقال من كافة مناصبه بما فيها الأمانة العامة إلا أن مدير مكتبه نفى في تعميم صحافي تلقته (الأهرام اليوم) استقالة الرجل من منصبه كأمين عام للحركة الشعبية، وعزت المصادر تقديم باقان أموم لاستقالته إلى وجود خلافات وسط القيادات وربطتها بالمُلاسنات الحادة التي وقعت في يوليو الجاري بينه ووزير النفط الاتحادي لوال دينق، وبدون مقدمات وجد وزير النفط نفسه أمام (قذائف وراجمات) باقان وهي تخرج من فوهاتها اتهامات قاسية وصلت إلى حد (العمالة) لصالح الشمال..!! تفاصيل القضية تعود إلى أن أموم قال في تعميم صحافي رسمي بثه تلفزيون جنوب السودان - طبقاً لما أوردته صحيفة (سودان تريبيون) - في الثاني من يوليو الجاري إن وزير النفط لوال دينق ارتكب (خيانة) في حق الجنوب وينبغي محاسبته، ونوّه إلى أن حكومة الجنوب فوجئت ببيع وزير النفط لإنتاج الجنوب من النفط عن شهر يوليو للشمال خلال المفاوضات بين وفدي الحكومتين بالشمال والجنوب بأديس أبابا، وكشف عن توجه حكومته للتحقيق في ما قام به الوزير.. لكن (لوال) التقط القفاز وشنّ هجوماً قاسياً على وزير السلام بحكومة الجنوب واصفاً إياه بصغير السن وعديم المعرفة والخبرة بما يدور في قطاع النفط وأضاف: «خبرته السياسية في مستوى أولى روضة، وأنا أكبر منه سنّاً ومعرفة ومن المؤسسين للحركة»، لافتاً إلى أن الواجب يحتم على باقان طلب تقرير شفاهي قبل إطلاق اتهاماته على الملأ ووصفه إياه (بعميل) الشمال. (لوال) أكد أن حصة الجنوب تم بيعها بعلم رئيس حكومة الجنوب واللجنة التي يرأسها بصفته وزيراً للنفط وإنفاذ البيع لعدم توفر المخازن والمعينات مع إعطاء حكومة الجنوب صورة واضحة عن الموقف. مصادر (الأهرام اليوم) أشارت إلى أن باقان أموم قدم استقالته لرئيس حكومة الجنوب سلفا كير ميارديت، فيما مورست ضغوط شديدة على الرجل لإثنائه عنها. أموم المشهور بمواقفه المُتشددة تجاه المؤتمر الوطني، قاد ملف المفاوضات مع الحكومة حتى الأسبوع الماضي، بغية حسم القضايا العالقة وترتيبات ما بعد الاستفتاء، كان قد حرص بنفسه على تقديم برنامج إعلان الاستقلال في التاسع من الشهر الحالي، وقد اعتبر الكثيرون أن جينات التمرد قد عادت إليه من جديد بعد أن سئم الأوضاع الراهنة بجمهورية جنوب السودان في ظل عدم التفاهمات والصلات الودية بينه ونائب رئيس الحركة الدكتور رياك مشار. وأكدت مصادر موثوقة ل(الأهرام اليوم) أن باقان أموم زهد في وزارة السلام بعد إعلان الاستقلال وأن طموحه يتجاوز حدود الوزارة الضيقة ويخطط لبناء مستقبله عبر الأمانة العامة للحركة الشعبية استعداداً للمرحلة المقبلة لضرب خصومه بشدة وعلى رأسهم الدكتور رياك مشار صاحب أكبر طموح في جنوب السودان وهو (الجلوس على سدة الحُكم) وليس غيره. والمعروف أن باقان (54 عاماً) عرف التمرد في وقت مبكر من حياته، حيث لم يتجاوز عمره في ذلك الوقت العشرين عاماً، يومها كان الرجل طالباً في السنة الثالثة في كلية القانون بجامعة الخرطوم أعرق الجامعات السودانية.. وهو متزوج من امرأتين، إحداهما تقيم مع أبنائها في أستراليا، والأخرى ابنة أخت قائد الاستخبارات الخارجية السابق للجيش الشعبي إدوارد لينو؛ دكتورة سوزان. نشأ باقان أموم في أسرة كبيرة، ووالده من القيادات التقليدية في قبيلة (الشلك)، ثالث قبائل الجنوب، وهو عمدة أحد فروع القبيلة، وسلطة القبيلة غرست فيه روح المسؤولية والقيادة على أساس التربية الباكرة التي تقوم بها الأسر العريقة في القبائل الأفريقية... كان يجلس الفتى ضمن مجالس شيوخ القبيلة وهو في سن صغيرة.. وكان يحضر أيضاً محاكم السلاطين، حيث تعلم الحكمة من والده السلطان... لكنه شبّ عن الطوق القبلي لاحقاً، ولم تصبح القبيلة هي منطلقه في حياته السياسية والفكرية، بل أصبحت قبيلته (الحركة الشعبية) و(الجيش الشعبي)، حسب وصف أحد الذين عملوا معه في الحركة الشعبية. ورغم الشائعات التي انطلقت في أجهزة الإعلام حول أسباب استقالة أمين عام الحركة الشعبية من الوزارة، إلا أن سكرتيره الصحافي عاطف كير أصدر تعميماً صحافياً تلقته (الأهرام اليوم) بأن الرجل استقال من منصبه كوزير للسلام وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل بحكومة جمهورية جنوب السودان، موضحاً أن القيادة كلفَّت باقان أموم بالمنصب الوزاري لمتابعة تنفيذ اتفاقية السلام الشامل وتهيئة الأجواء لإجراء الاستفتاء على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وهو ما أفرز ميلاد الدولة الجديدة على الرغم من أن دستور الحركة الشعبية لتحرير السودان نَصَّ على تفرغ أعضاء سكرتاريتها القومية بمن فيهم الأمين العام؛ للاضطلاع بمهامهم التنظيمية، وأكد عاطف كير أن باقان أموم يمارس مهامه كأمين عام للتنظيم لتهيئته لمرحلة التحوّل السياسي التي أفرزها ميلاد الجمهورية الجديدة وما يتبعها من تنافس بين قواها السياسية المختلفة. باقان كان قد أصيب في إحدى المعارك بجراح كبيرة في ظهره وتم إرساله إلى كوبا واستثمر وجوده في هافانا وواصل تعليمه الجامعي حتى حصل على شهادات في العلوم السياسية، ومن ثم أصبح ممثل الحركة في كوبا وأمريكا اللاتينية، وفتح المجال لكوادر الحركة لنيل التدريب السياسي والعسكري، إذ أن (الحركة) وقتها في منتصف الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات كانت يسارية التوجه. وعندما عاد إلى مناطق العمليات في الجنوب، كان الانقسام الشهير الذي حدث في الحركة الشعبية بقيادة الدكتور لام أكول - وهو لديه صلة قرابة مع باقان أموم ومن قبيلة واحدة - والدكتور رياك مشار وكاربينو كوانين وأروك طون أروك، والأخيران من القادة الأوائل المؤسسين للحركة الشعبية. ووقع هؤلاء اتفاقية الخرطوم للسلام، ولكن تفرقوا أيضاً بعد ذلك، حيث قتل كاربينو كوانين في ظروف غامضة بعد عام من توقيعه الاتفاقية. ولقي أروك طون أروك حتفه في مدينة الناصر مع النائب الأول الأسبق اللواء الزبير محمد صالح في حادثة طائرة نجا منها لام أكول الذي انضم إلى المؤتمر الوطني، ثم خرج عنه وشكل حزب العدالة وانقسم عنه ليشكل حزب العدالة الأصل. وعاد مرة أخرى إلى الحركة الشعبية قبيل توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا (كينيا) أواخر عام 2003، وتم تعيينه وزيراً للخارجية. وبعد إعفائه انقسم عن (الحركة) مرة ثانية وشكَّل تنظيماً يحمل الاسم ذاته بإضافة (التغيير الديمقراطي)... ويقول القائد العسكري نفسه، إن باقان أموم كان من القادة المهمين في إفشال مخطط الانقسام، وإنه وقف بصلابة ضدهم، وعمل جهداً كبيراً في (كبويتا) وغيرها ضد الانقساميين، خاصة أنه كان ضابطاً للتوجيه المعنوي وعمل في عدة مواقع وكتائب عسكرية منها (الجاموس) في منطقة أعالي النيل التي ركز الذين انشقوا عن (الحركة) معظم نشاطهم فيها. ويشير إلى أن المؤتمر الأول للحركة الشعبية والجيش الشعبي في عام 1994م قام باختيار أموم سكرتيراً للإعلام في اللجنة التنفيذية العليا ل(الحركة)، كما أن قائد الحركة الدكتور جون قرنق كان يوكل للرجل دائماً المهام الصعبة لأنه يعرف أنه سينجزها وأنه يتفهم ما يطلب منه. ويلفت إلى أن اختيار أموم لقيادة الجبهة السادسة في شرق السودان في العام 1996 كان سببه أن باقان أموم درس في المدارس الثانوية في بورتسودان بشرق السودان ويعرف طبيعة المنطقة، وأنه استطاع أن يخلق علاقات قوية مع قوى التجمع الوطني الديمقراطي، ومن ثم تم نقله إلى الجنوب مرة أخرى ليتم تعيينه سكرتير التجارة والأعمال (وهي توازي وزير التجارة).