{ من بين التنوع الكبير الذي ميّز برامج رمضان على كل الفضائيات السودانية الجديدة والقديمة في مضمار التنافس نحو نوال رضانا العصي كمشاهدين نرفع شعارات النقد سلفاً، أقول بين كل ذلك استوقفني برنامج (ليالي على النيل) الذي تقدمه قناة النيل الأزرق كسهرة يومية شحذت لها كل عوامل النجاح وأولها وجود المذيع المتألق «سعد الدين» كماركة مسجلة لكل البرامج الحوارية العميقة التي يضفي وجوده فيها كمدير للحوار بعداً آخر ونكهة خاصة، إلى جانب عودة الجميلة «جدية» التي تبقى اسماً بارزاً في دنيا الإعلام السوداني رغم تحفظاتي على ظهورها الضعيف نسبياً على ليالي النيل مؤخراً. { والشاهد أن الجميل في هذه السهرات أنها تقوم على موضوع معين ومبتكر تدور حوله كل النقاشات والقفشات والحكايات التي يشارك فيها ضيوف يبدو اختيارهم بعناية واضحاً. وبعد أن أرفع القبعة لكل القائمين على هذا البرنامج بفرق عمله المتناوبة والمتباينة، أقف كثيراً عند الحلقة المميزة التي دارت حول عرض النجاحات الضاربة لبعض «المكفوفين» الذين ابتلاهم الله بفقدان البصر وأنعم عليهم بنفاذ البصيرة وحلاوة اليقين وقوة العزيمة وصلابة الإرادة. { ولكنا نقف باحترام كبير أمام تجربة العملاقة «حنان النيل وصديقتها اللدودة «آمال النور»، ولكن هذه الحلقة عرفتنا على نماذج أخرى مجهولة بمواهب مختلفة في مجالات يستعصي بعدها على كل المبصرين، وإذا كنا قد تعرفنا من قبل مندهشين على الموسيقار والعواد الرائع «عوض أحمودي»، و«د. الصادق» اخصائي علم النفس والتنويم المغنطيسي بجامعة الخرطوم، فإن الدهشة الكبرى والإعجاب المطلق كانا نصيبي حالما عُرض التقرير المصور عن الأخ «حاتم حسن» اخصائي صيانة الهواتف الجوالة الكفيف!! هذا المجال الصعب جداً والدقيق، وتلك المهنة النادرة التي تحتاج لقدرات خاصة يقوم بها رجل كفيف لا يرى ولا يعرف أشكال قطع الغيار أو المكونات الإلكترونية الصغيرة والحساسة للجوالات! { فسبحان الله الذي لا يظلم عباده ويرزقهم كيفما كانوا، ومن أشد ما مس شغاف قلبي ذلك الوفاء والامتنان اللذان أعرب عنهما كل الضيوف للأستاذة الإنسانة «ست البنات» مدير معهد النور لأكثر من ثلاثين عاماً، التي تتلمذ على يديها معظم فاقدي البصر ففتح أمامهم طاقات النور وأعانهم على تحديد اتجاهاتهم واختيار مساكنهم بمنتهى الحب والصبر والمثابرة، رغم أنها تعمل على حد علمي بأبسط الإمكانيات وفي بيئة غير مؤهلة، إذ أن المعهد لا يجد العناية الكافية من جهات الاختصاص لتكون هذه المرأة مثالاً حياً للعمل الرسالي المبذول لوجه الله والقائم أساساً على طاقاتها الشخصية غير المحدودة لا ترجو إلا هذا الحب الكبير والتقدير الذي يكنه لها طلابها وأبناؤها الذين تمكنوا بمساعدتها من الترقي في سلالم المجد واخترقوا كل المجالات الهندسية والفنية والسياسية والأكاديمية وباقتدار يبز كل من عداهم. { وهكذا، تعلمت من تلك الحلقة كل معاني الإصرار والرضا والامتنان وهي تمشي بيننا على قدمين بعضها يستعين بعصا أليفة وبعضها يراهن على ذاكرة متقدة وبصيرة نافذة وغرائز متيقظة واعتياد وبداهة، وكلها تشير لذكاء وفير ودماثة وأخلاق حميدة، ربما لهذا تجد كل المكفوفين من حولك على قدر عالٍ من اللطافة والبشاشة والتهذيب، إذ أنهم تجردوا من كل ما يلهينا في دنيانا وملأوا قلوبهم بحب الذات الإلهية والقناعة. { تلويح: جربوا معي إغماض عيوننا لساعة كاملة والقيام ببعض مهامنا اليومية المعتادة، وأتحداكم في ذلك، ربما لهذا تجدنا نحن المعاقين وهم الأبطال الخارقين والتحية (لكل مكفوف قلبو بشوف).