ذات شتاء، وبينما الأرض تتنفس ثورة والتلفاز يصادر الأبصار والمسامع بأناشيد متحركات الدفاع الشعبي (قل للداير شبر في بلدنا..) كان العم محمد الحسن البشاري يهبط من أعلى الجبل في موسم العودة للجذور، يبحث عن أهله، يتلفت الرجل يميناً وشمالاً فيرتد بصره حسيراً، يضع سيفه وعمامته على الأرض ويحبس أنفاسه للحظات ومن ثم يغرس أظافره في الرمال، ما الذي حدث يا ترى؟ أين توارت مظاهر الحياة، الجمال، الناس، أين حلايب؟ الخوف الذي اجتاحه على مصير أهله، المكان هو المكان لكن ثمة شيئ قد تغير.. في هذه اللحظة وبينما الأسئلة تخامر بالشك دواخل الرجل كان ثمة شخص يلوح في البعيد ويقترب منه رويداً رويداً، يصيح فيه بلكنة ساحلية «مهمد الحسن، المصريين احتلوا حلايب، والمكان بقى نار منقد، والجنيات نصهم بي هنا ونصهم بهناك».. موجة من الذهول تملكته، كيف حدث ذلك وماذا يفعل الآن؟ يفكر قليلاً قبل أن يستدير في محاولة تكتيكية لاسترجاع تضاريس الجغرافيا والبحث عن وطن جديد.. ميناء أوسيف كان قد افتتحه رئيس الجمهورية عمر البشير ساعتها، كان ذلك في العام (1994)، والمدينة مجرد ميناء لتصدير اللحوم فقط لا أكثر، صحراء قاحلة.. ارتخى جسد محمد الحسن كما يرتخي المطاط وأناخ بعيره، ومضى وهو يجر خلفه كهولته بجسد نحيل، وبينما هو يسترجع تلك اللحظات للصحيفة طفرت من عينيه دمعة تخالطها مرارة الذكريات.. يقول محمد ل(الأهرام اليوم): فكرت في تأسيس مدينة أوسيف، كان ولدي الصغير يقول لي.. هل ستتركنا في هذا الوادي المستوحش يا أبي؟ ويواصل الرجل: «وعندما جلست بين الصخور تذكرت دعوة سيدنا إبراهيم ودعوت بها «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ». انفرجت شفتاه بابتسامة متفائلة وأضاف قائلاً (كما ترى هى اليوم مدينة أوسيف تضج بالحياة، فيها ميناء وسوق، ومدارس، وناس، أنا الذي شيدت هذه المدينة طوبة طوبة). بالفعل نجح الرجل في بناء مدينة أصبحت هى العاصمة البديلة لمحلية حلايب، ومنذ أن سمع أن الرئيس البشير سوف يزورها ويفتتح فيها عدداً من المنشآت حرص عم محمد على ارتداء زي البشاريين والحضور باكراً للمشاركة في الاحتفال، ومضى أكثر من ذلك عندما دعا أهله من البشاريين داخل المثلث للحضور واستقبال الرئيس في زيارته التاريخية الأخيرة، وتجاسر في المنصة وقدم سيفاً لرئيس الجمهورية تعبيراً عن سعادتهم وحفاوتهم به، فالسيف يرمز للنصر كما يقول وهم أهل نصرة متى ما دعا الداعي، مؤكداً في حديثه أن حلايب أرض سودانية ولا يمكن أن نتخلى عنها، وسوف تعود لنا (طال الزمن أو قصر) ثم مضى شاهراً أحزانه ومردداً في صوت متقطع: أتمنى أن يعم ديارنا السلام! لم تنته القصة هنا؛ فمحمد الحسن بشعره الأبيض الوقور وهيئته التي بدت كهيئة القائد عثمان دقنة فكر في زراعة مزارع بالقرب من المدينة في أرض لا تنبت فيها غير الصخور، وبعد سنوات تفجرت ينابيع المياه، وتفتحت أشجار البرتقال وسبايط النخل في مدينة أوسيف لأول مرة، كان يساعده في ذلك أحفاده المنتشرون على امتداد تخوم المدينة حتى أضحت الأرض مكاناً يسر الناظرين.