هناك مُدن تبقى في الذاكرة كما (الحبيب الأول).. ومدينة «كسلا» من بين هذه المدن، إذ ليس باستطاعة زائر إلى المدينة العريقة والأنيقة في آن، أن يغادرها دون أن يقع في عشقها، هكذا فعل أدباء وشعراء وفنانون جاءوها ترويحا فاختاروها مقاما.. بردا وسلاما. قدمنا إلى المدينة – معقل طائفة الختمية ومرقد سادتها - وفي الذهن ملامح من انطباعات تختلط فيها الأجواء بعبق حضارات الموحدين وأهل الطرق الصوفية الذين يقتحمون كل بقعة من تلك البلاد التي تضم مدافن صوفية يزورها المريدون والمغرمون، التي أعطى فيها عراب شعر الغزل إسحق الحلنقي ظهره للنهر ثم غنى بدارجة (حبيت عشانك كسلا وعشقت أرض التاكا). كنا في مهمة صحفية قصيرة برفقة زميلنا أحمد طرزان مسؤول الإعلام في مفوضية اللاجئين إحدى منظمات الأممالمتحدة، والهدف من زيارة كسلا هو تفقد أحوال اللاجئين في معسكر «شجراب»، ولكن هل يمكن لزائر إلى كسلا أن يغادرها دون تفحصها؟ كانت رحلة استمرت لساعات فقط لكنها شملت العديد من التغطيات واللقاءات، ومن تلك المقابلات القصيرة مع مواطنين بالمنطقة تلحظ بشكل واضح أنهم مهمومون هذه الأيام بفيضان نهر القاش الموسمي أو كما يسميه أهل المدينة ب «النهر المجنون». وتقول الأسطورة الشعبية المتداولة إن «القاش» قد جن جنونه عندما حاول الجيش الإيطالي الذي كان يحتل جزءا من المنطقة في ثلاثينيات القرن الماضي، إقامة جسر للعبور إلى مدينة كسلا، لكن الجسر كان يتهاوى مع تدفق المياه الهادرة، وقد أعيد بناء الجسر أكثر من مرة لكنه كان يسقط، مما دفع بعض المهندسين الإيطاليين الذين كانوا يصاحبون الجيش الإيطالي إلى الاعتقاد بأن عملية بناء الجسر تصطدم بقوة خفية، فسار بين الناس أن النهر الموسمي يحمل في جوفه الشيطان، لكن الأسطورة تبددت بعد ذلك بسنوات حيث صار النهر موردا طبيعيا رئيسيا للمدينة، وأحد شرايين الحياة فيها. ومن الحكايات التي يتحدث بها الناس؛ قصة موثقة في وسائل الإعلام جرت في أيام جنون النهر وفيضانه (يوليو 2007) فقد جرف «القاش» امرأة إثيوبية (حاملا) من مجراه بداخل إثيوبيا إلى ولاية كسلا حيث ظلت المرأة وهي من قبائل (البارية) سابحة مع تيار نهر القاش لمدة ثلاثة أيام بحملها حتى وصلت قرب قرية كبرى على نهر القاش. وذكرت مصادر الشرطة في ولاية كسلا أن المرأة صادفتها مجموعة من الفتيان كانوا يسبحون في النهر وانتشلوها في حالة صحية سيئة حيث كانت في آخر أيام حملها ويبدو عليها الإرهاق والتعب وفي المستشفى أنجبت توأما، وتعافت المرأة بعد هذه الحادثة بوقت قصير. الشعب يريد ترويض «نهر النقاش» من فيضانه السنوي الذي يهدد الحياة بالولاية حسب ما أبلغني أحد المواطنين، وقد أبلغني ممثل الحزب الشيوعي هناك بأن أضابير دواوين الحكومة بالولاية تضم دراسات علمية لكيفية ترويض القاش، وأضاف أنه ومنذ الستينيات وحتى الآن تتعامل معه السلطات مركزيا وولائيا كحالة طارئة أو بردود الأفعال وليس كمعضلة حقيقية تحتاج إلى معالجة ناجعة ودائمة فكلما هاج النهر وابتلع المتاريس ودمر الجسور الواقية للمدينة قابلته الحكومة بمزيد من الردميات والحفريات التي سرعان ما تتآكل وتنهار بمضي كل موسم بيد أن فيضان العام الماضي وضع حدا فاصلا للامبالاة في أمر النهر المجنون إما بترويضه بصورة دائمة أو تركه يعربد وقت هاج وكيفما شاء. ويتفق جميع المواطنين على ضرورة أن تقوم حكومة الولاية بتنفيذ السدود والمعالجات العلمية لتأثيرات فيضان النهر، وتعويض المتضررين في السنوات الماضية، وإنشاء المشروعات الزراعية الجديدة للاستفادة من حجم المياه السنوية التي يحملها مجرى النهر.