{ حاولت أن أتراجع عن الكتابة حول هذا البرنامج الرمضاني المميز الذي برزت به قناة (زول) في سباق رمضان المحتدم، كون الزميلة العزيزة (مشاعر عبدالكريم) قد كتبت عنه منذ مدة في ذات التوقيت الذي تداعت فيه فكرته في خاطري، ولكن وجدت نفسي مرغمة على الكتابة لأن انفعالي بهذا البرنامج الشهري المختلف كان أكبر من سياستنا التحريرية والتزاماتنا الأخلاقية كزملاء تجاه بعضنا البعض، وتجاه القارئ الذي لا نحب أن نثقل عليه بالتكرار أو التشابه. { إذن، وبكامل التقدير للنص المميز الذي كتبته (مشاعر) (في ما يتعلق) ببرنامج (ريحة البن) الذي يقدمه أولئك الشباب الجهابذة في عوالم الشعر، معربة عن تقديرها للفكرة والمضمون وشكل التقديم وإحساسنا المختلف تجاه العمل ككل وهو الإعراب الذي صادف هوىً عظيماً في نفوس العديد من المشاهدين الذين وجدوا في (ريحة البن) «تمامة كيفهم» فأدمنوا التوقيع على دفتر الحضور، مستجيرين به من هجير البرامج الثقيلة الممجوجة في القنوات الأخرى. وربما أكثر ما يميز (ريحة البن)، إلى جانب اسمه الاستثنائي الحميم، تلك البساطة والعفوية التي يتعامل بها شبابه الرائعون الذين فندوا كل ادعاءاتي بأن جيلهم هو لا يمت للثقافة والاطلاع والمواهب العظمى بصلة، فبرغم أنهم جميعاً في عمر الزهور إلا أن بعضهم يحمل عقلاً ناضجاً وتجربة ضخمة علمته ماهية الحياة وكيف يمكنه أن يعبر عن القضايا والمشاكل والمشاعر والأيدولوجيات الفكرية بتجويد وشفافية وحرفية عالية. { وقد لا يعلم الكثيرون أن للبرنامج حكاية، فهو قد بدأ منذ سنوات كمنتدى شعري طلابي (بجامعة الجزيرة) على يد الزعيم (محمود الجيلي)، وكان حينها طالباً على مقاعد الدراسة، فأحدث هذا المنتدى الجديد في فكرته ومحتواه ثورة كبرى داخل الجامعة، ولكنه كطبيعة كل الأشياء تراجع شيئاً فشيئاً حالما ولج (محمود) ورفاقه إلى الحياة العملية وبارحوا مقاعد الدراسة، غير أنهم سرعان ما لملموا أطرافهم وتحلقوا من جديد في بقعة وادعة على النيل وفي مكان (ثابت) بالقرب من برج الاتصالات وبانفتاح أكبر، إذ أصبح المنتدى مفتوحاً على مصراعيه لجميع الشباب أصحاب المواهب المتوارية، وفي ذلك الهواء الطلق يمكنك أن تسمع العجب العجاب الذي يجعلك تفقر فاهك مبهوراً وتنسى تماماً أمر القهوة المعتبرة التي تقدمها لك صديقة المنتدى الدائمة التي اتخذت له سبيلاً للعيش في إحدى زواياه القصية، وحين تبرد قهوتك تكون أنت قد اشتعلت نشوة وحماساً مما سمعته من نفيس الأشعار الحرة والدارجة والفصحى وحتى تلك القادمة من البطانة. { ومن هناك برزت فكرة (ريحة البن) كبرنامج تلفزيوني عالي المشاهدة لم يكلف أولئك الشباب سوى نقل المشهد الخارجي إلى داخل الاستديو وإن لم يخل الأمر من بعض الفوارق، إذ أنهم على النيل يصبحون أكثر تحرراً وطلاقة، تستشعر صدقهم وعمق صلاتهم وتكاد تحس بمحبتهم الخالصة لبعضهم البعض مع خالص الاحترام المتبادل. { لهذا نجح (ريحة البن) لهذا الحد، لأنه جاء من القلب فلامس القلب، ولأننا نقرأ في الكلمات المتداولة عبره ذواتنا وأحاسيسنا وأحلامنا، وكأنه أصبح ترجمان هذا الزمان ولسان حاله. { فالتحية لأولئك الشباب الواعدين بقدر ما منحونا إياه من جمال وسعادة ومتعة، على أمل أن يجدوا القدر الكافي من تقديرنا واحتفائنا بمواهبهم العجيبة، والحرص على التوثيق لكتاباتهم المتفردة التي أحسب أنها ستكون يوماً سفراً مهماً من أسفار تاريخ بلادي بعد أن تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك أن ثقافتنا وشبابنا ومواهبنا بخير، غير أن العائق الوحيد في وجه تقدمنا يظل هو عدم تكافؤ الفرص ورعاية الإبداع والمبدعين. { تلويح: (محمود الجيلي صلاح الدين) يا (ريحة البن).. وريحة المطر الرشّ الطين.. تفوح أشعارك، بين أنصارك كالياسمين ترسم لوحة من الأفراح.. وتكشف سر للريدة دفين..