ثمّة أفكار لبرامج تراها عادية جداً، لكن ما أن تشرع في اتخاذ قرفصاء مشاهدتها حتى تنتابك قشعريرة الخجل من رأيك الاستباقي ذاك. وهذا ما حدث في برنامج (ريحة البن) المعروض على شاشة قناة (زول) الفضائية،عقب الإفطار بقليل، وتتكون فكرته في الأساس من لمّة شباب شعراء، يقرأون الشعر بطريقة مختلفة /عادية إلى درجة أنك تشعر أنهم دفعتك في الجامعة..! وهي جلسة يهندسها المقدّم - وهو غير المذيع إذ أنه يعدّ الحلقة ويقدمها معاً - الشاعر الشاب (محمود الجيلي) بأسلوب سلس غير متكلف أبداً. وبداية الحلقات المتوالية حتى نهاية شهر رمضان، أنبأتنا بوجود شعراء (بنات وأولاد) غير مرئيين بسبب غشاوة إشهار شاعر أو شاعرة على الآخرين وعدم منح الفرص المتكافئة ليقولوا قولهم، كما في الغناء تماماً، فنسمع بشاعر وحيد يمتطي صهوة المنتديات الشعرية المرتكزة على عواميد المراكز الثقافية، وكأنّما لا فارس كلمة في جيله غيره، ونشاهد شاعرة تملأ بيوت شعرها اختلافاً إنسانيّاً - أو أنثويّاً - لتذكر عند القنوات الفضائية بخير ذاك الاختلاف، فتراها منشرّة على (الفيس بوك) وعلى الهواتف النقّالة، شاعرة لا يعلى على كلمتها ولا قولها! والقول في (ريحة البن) لكل أنواع الشعر: الحديث، النمطي، العامي، الدوبيت، والمرابيع.. الخ، ينظمونه بإتقان وحرفية عالية - بحسب سماعي - ويعرفون كيف يديرون الآذان تجاه كلماتهم ومزجهم الأنيق للحروف.. يسيطرون على المزاج برائحة أحاسيسهم الصادقة وعفوية سردها الشعري، والقصصي بجانب الموضوعات اليومية المطروحة للحلقة، الملونّة بطعم البن. والبن استهلاكه في التسمية في كثير من برامج هذا الموسم الرمضاني، وغيرها، يجعل المشاهد يعترف بمكرر الفعل من تكرار التسميات، وربما يتم اختياره لثقافة مزاجية مسيطرة علينا كسودانيين أن (البن) سيّد المزاج المطٌلق، وهو الملهم لكثير من الأدباء لإنتاج عملياتهم الأدبية على اختلافها بشئ من النكهة المعتبرة! واستخدامه نموذجاً في برنامج شعري - مع حفظ حقهم في خلفية التسمية - يعكس الى حدٍ ما فكرة أنه شعر بمزااااج. وما مزج من برامج مكررة وباهتة جداً وكسولة لدرجة الاحتفاظ بالضيف معلباً كل يوم في ذات المكان لمدة ثلاثين يوماً، أو إعادة إنتاج برامج مرة أخرى بلا رهق تركيب حلقات جديدة لمسلسل الإعادة ذاك لشدنا اليه، وهو أمر متساوٍ في كافة القنوات السودانية بدون فرز، وما عشناه من ترقب لقرار أعلى وأهمّ هيئة إسلامية في السودان لبرنامج (أغاني وأغاني) بانتظار ظهوره، ثمّ الإحباط المصاحب للتكرار المميت غير المتوقع فيه كسهرة، والقرار الأمني بإلغاء الحفلات المسائية في الخرطوم بلا حُجة قانونية ولا فقهية، رغم عدم التفوّه بذلك بشكل منشور وواضح - بعض الفنادق التي يتم التعامل معها سياحياً بها حفلات وبرامج سحور - وزمن المسلسلات المعادة بأوقات تتيح مشاهدتها ألف مرة في اليوم الخ، كل ذلك جعل من (ريحة البن) برنامجاً ذا نكهة مختلفة، يتفق في شكل (الرصّة) التي صارت واحدة من ميزات البرامج المنتجة سودانياً، حشد ألف شخص في ذات المكان، ويختلف في قيمة ما يقدمه من أسلوب جديد جعل من الشعر مادة جاذبة وجذّابة تذهب إلى البيوت وتونّس أصحابها بما يقوله أبناؤهم وبناتهم، وليس كما كان محصوراً بين حوائط المنتديات والمراكز، على المثقفين والصفوة. صفاء مزاج البرنامج بجانب التركيز على احترام قيمة (ست الشاي والقهوة) والخيارات غير الموفقة في بعض الهنات الفردية، يمكن أن يجعل من القراءة النقدية له مشواراً بين القهوة المرّة والسادة والبكري أ والسكّرها زيادة!