لا أشك إطلاقاً في أن سقوط نظام القذافي، هذا النظام العنيد، سينعكس إيجاباً على استقرار الأوضاع في المنطقة والإقليم وخاصة دافور. انتهى نظام القذافي قبل أسبوع من احتفالات الجماهيرية بثورة الفاتح من سبتمبر، هذه المناسبة التي كان يُدعى لها كل العرب والأفارقة لا لشيء سوى الاستماع لخطب قائد الثورة العصماء، فهو يدعو الناس جميعاً ليرضي غروره فقط، كيف لا وهو له موقع في الإنترنت يسمى (القائد يتحدث). في العام 1987 سنحت لي الفرصة بأن أكون ضمن الوفد الصحفي المرافق للاستاذ إدريس البنا نائب رئيس مجلس رأس الدولة، الذي ترأس وفد السودان وقتذاك المشارك في احتفالات الجماهيرية بالعيد العاشر لثورة الفاتح، وبالفعل تحركنا ووصلنا في يوم الاحتفال مساءً لمدينة سبها وهذه أول مرة كنت أزور فيها الجماهيرية، وأذكر أن إدريس البنا دخل قاعة الاحتفالات وتم تقديمه ضمن أول الضيوف المتحدثين، فألقى قصيدة جعلت القذافي يكاد يطير من الفرح، الشاهد أننا استمعنا لخطاب دام خمس ساعات وأكثر من القذافي ووقتها لم يصل لدرجة القائد الأممي ولا لملك ملوك أفريقيا بعد، كان يتحدث في كل هذه المدة الزمنية الطويلة عن أمريكا والبضائع الأمريكية والمقاطعة، أذكر هنا أنه كرر كثيراً القول: (هذا الأرز الذي يأتيكم من أمريكا هو حرام)، ولم أفهم وقتها هل يقصد شعبه الليبي أم ضيوف الدول المشاركة، ولكن ما لاحظته منذ ذاك الوقت أن الكل ظل صامتاً عندما كان يتحدث القذافي وليست هناك أي فرصة للخروج من القاعة ولو تحدث ليومين متتاليين. ليس هذا هو المهم بل المهم انه عندما التقى القذافي بإدريس البنا والراحل عمر نور الدائم بوصفهما قياديان في حزب الأمة الحاكم حاصرهما بأسئلة حساسة خلال الاجتماع بهما في خيمته الشهيرة ووقتها جاء لهذا اللقاء وهو يرتدي لبسا رياضيا، صمت المسؤولان بتوجس ليبدأ الحديث القذافي فقال لهما: لماذا تأخرتم على المجئ إلى ليبيا كل هذا الوقت من عمر حكم الديمقراطية في السودان، وهنا الرجل (القذافي) بالتأكيد يعني ما يعني من قول فهو يريد أن يذكرهم بأنه كان أحد اضلاع المثلث الذي أسهم في نهاية حكم مايو، وهم يعلمون ذلك وكأنه يكاد يذكرهم ايضاً بأن حزب الأمة قد نكص عهده عقب تسلمه الحكم بعد الانتفاضة التي اقتلعت نظام مايو، هذا العهد الذي كان يبتغيه القذافي هو إعلان الوحدة بين السودان وليبيا من داخل الجمعية التأسيسية وهذا ما لم يتم لدرجة جعلت القذافي يقول في حديث صحفي شهير: (خاب ظني في الصادق المهدي). نعود إلى لقاء الخيمة وسؤال القذافي لإدريس البنا وعمر نور الدائم الذي كان هو: «لماذا تأخرتم» فأجاب الرجلان بسرعة وخوف: كنا نريد أن نطفئ النيران - وهما يقصدان هنا حرب الجنوب - ومن ثم نأتي. فقال لهما: هل اطفأتموها؟ فقالوا: لا.. فضحك القذافي بسخرية، لم ينتبه أحد في الخيمة إلى وجودي كصحفي وتلفت يمنة ويسرة فخرجت بعد أن أحسست أن هناك عتاباً سياسياً كبيراً على الرجلين وملامح الخجل بدأت تظهر عليهما وخرجت من الخيمة حتى لا أراهما كما يقول العامة (مهنطبين)، ما علينا فلقد ذهبنا بعد ذلك إلى مدينة بنغازي وللحقيقة والتاريخ أقول طاب لنا المقام هناك أكثر من طرابلس وسبها مكان الاحتفالات. تلك الأجواء السياسية ومن مشاهداتي اقول إن القذافي بالرغم من عدائه لنظام جعفر نميري إلا أنه لم يكن داعماً للديمقراطية الثالثة التي جاءت بعد انتفاضة أبريل، هذه هي زيارتنا الأولى لليبيا. أما الثانية فسأكتب عنها لاحقاً، ولكن هناك طرفة ما زلت أتذكرها وهي عبارة عن قولة شهيرة قالها القذافي عندما كان معادياً لنظام جعفر نميري حيث قال وقتها: (في السودان هناك شعب ولا يوجد قائد وفي ليبيا هناك قائد بلا شعب فإذا قامت الوحدة بين ليبيا والسودان فسيكون هناك شعب وقائد)، ووقتها دفع جعفر نميري ببعض المقاتلين الذين وصلوا باب العزيزية ولهذا السبب سارع القذافي بحفر نفق تحت الأرض، باب العزيزية الذي هو آخر معقل للنظام الليبي السابق الآن.