الحرب التي اندلعت في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان لم تأتِ من فراغ وإنما كانت (محشورة) في ثنايا تفاصيل اتفاقية السلام الشامل، فمنذ اختلاف المؤتمر الوطني والحركة الشعبية قبل انفصال الجنوب حول تفسير لفظة (المشورة الشعبية) كان واضحاً أن هناك تبايناً حول طريقة إدارة حكم هاتين المنطقتين، واتضح هذا الأمر حينما اعتبرت قيادات الشمال في الحركة الشعبية (المشورة الشعبية) خطوة في اتجاه منح هذه المناطق حكماً ذاتياً يقود في المستقبل إلى الانفصال، أو هكذا كان يؤكد مالك عقار عندما كان والياً على النيل الأزرق،مستدلاً بنظريات عالمية في هذا الإطار. بينما كان يصر المؤتمر الوطني على أن المشورة صيغة تقود أهل المنطقتين إلى توافق في المستقبل حول منهج الحكم في ولاياتهم، لكن بعد تمديد الرئيس البشير للمشورة الشعبية نعى قطاع الشمال في الحركة الشعبية هذه المشورة وكان هذا يعني بداية التصعيد السياسي بين الجانبين، وتبع ذلك مشكلة عدم الاتفاق على وضعية الحركة الشعبية في الشمال واستيعاب منسوبيها في الجيش الشعبي في هاتين المنطقتين، هل تصبح حزباً سياسياً وفقاً لمنصوص قوانين الأحزاب كما يريد المؤتمر الوطني أم تستمر بوضعيتها السياسية المنصوص عليها في الاتفاقية منتهية الأجل كشريك للمؤتمر الوطني في الحكم كما تريد الحركة الشعبية ونص اتفاق أديس الإطاري، هذه التفاصيل لا يبدو أنه كان هناك اتفاق واضح بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بشأنها أو رؤية واضحة لدى الحكومة ممثلة في حزب المؤتمر الوطني حولها، وزاد الأمر تعقيداً عندما وقع المؤتمر الوطني على اتفاق أديس الإطاري الذي وافق عليه قطاع الشمال في الحركة، وربما يكون طابق خططه الموضوعة سلفاً، وتراجع المؤتمر الوطني عن الاتفاق الذي وقعه نائب رئيسه ولم يعتمد في مكتبه القيادي بحجة أنه يناقض اتفاقية السلام الشامل التي تدعو إلى التعامل مع هاتين المنطقتين حسب نصوص الاتفاق واتفاق أديس يتيح فرصة لشراكة سياسية جديدة مع قطاع الشمال الذي ينبغي أن يتحول إلى حزب سياسي أولاً كما قال المؤتمر الوطني. الحركة الشعبية تمسكت بالاتفاق باعتباره المخرج الوحيد لمثل هذه القضية كما هو معروف، هذه التفاسير المختلفة أفرزت التباسات معقدة في الساحة السياسية أدت إلى توسيع شقة الخلاف ودائرة الصراع بين الأطراف، مما أدى إلى اندلاع الحرب في جنوب كردفان بعد إعلان انفصال دولة الجنوب بأقل من شهر التي خلفت عدداً من القتلى مما أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في المنطقة ومنذئذ أصبحت الأوضاع وقد تكون الأفكار كذلك تتنقل من خيار السلام إلى ساحات المواجهة، ورغم مبادرة الرئيس البشير التي أعلن فيها وقف إطلاق النار من جانب واحد إلا أنها بحسب المختصين كان فيها إشارة إلى إمكانية تغليب الخيار العسكري على السياسي، فهمها الناس عندما قال: «هذه المبادرة ستسري لمدة أسبوعين بعدها سنقيم الأمور وتتخذ الحكومة القرار المناسب، إما مواصلة الحرب أو الانخراط في مفاوضات مع الحركة الشعبية بقطاع الشمال»، أما قيادات قطاع الشمال فقد اعتبرت وقف إطلاق النار بمثابة غطاء من الحكومة لشن هجوم جديد، وأكدت على لسان عبد العزيز الحلو أنها لم تأخذ الدعوة مأخذ الجد. الإشارات والتأكيدات هذه تدل على أن الجانبين لا بديل أمامهما الآن غير الحرب وما يعزز هذا الاعتقاد انتقال الحالة هذه من جنوب كردفان إلى النيل الأزرق التي كانت تعيش حالة من الاحتقان السياسي والعسكري، في تطور وصف بالخطير من قبل المتابعين لمجريات الأحداث. رغم حديث عقار السابق عن أنه لا يريد الحرب وسيظل منحازاً إلى السلام والوسطية التي كانت يبديها في تعامله مع حكومة المركز الأمر الذي جعل الناس يسألون ماذا يريد عقار؟ لكن واقع الحال في المنطقة كان يشير إلى اقتراب حالة الانفجار السياسي والعسكري في المنطقة، والسؤال نفسه ظل يردده المختصون والمراقبون ماذا سيفعل المؤتمر الوطني وهل يستطيع مواجهة ومصارعة كل هذه الجبهات وفيمَ يفكر الآن؟. بعضهم توقع عودة المؤتمر الوطني إلى خيارات الحلول السياسية حتى لا يدخل في عملية استنزاف طويلة تعود به إلى مربع الحرب مرة أخرى وعندئذ يكون قد فقد الجنوب والسلام. في الجانب الآخر كذلك سؤال آخر فيمَ يفكر قطاع الشمال بالحركة الشعبية وإن شئت قل فيمَ تفكر حكومة جنوب السودان التي تعتبر الحبل السري لقطاع الشمال، هل تريد تدشين الجنوب الجديد بحدوده الجغرافية وقواسمه المشتركة الأخرى ممثلة في التقاربات الاجتماعية والثقافية من خلال رعاية قيادات الحركة الشعبية في الشمال سياسياً ودعمها عسكرياً أم أنها تريد توطيد علاقاتها بحكومة الشمال، مراقبون كثر في إجابتهم على هذا السؤال أكدوا عدم حرص حكومة الجنوب في إقامة علاقات حميمة مع الشمال ودللوا على ذلك باستقبالها جهراً عبد العزيز الحلو ومن بعده مالك عقار وإعلانها مؤخراً استعدادها لعملية التبادل الدبلوماسي مع حكومة إسرائيل التي يعتبرها هؤلاء إحدى مهددات الأمن القومي لحكومة شمال السودان. إذن على مستوى حكومتي شمال السودان وجنوبه احتمالات الحرب مفتوحة وعلى مستوى قطاع الشمال لا يلوح في الأفق ما يدل على إمكانية احتواء الموقف سياسياً على خلفية قرار إعفاء مالك عقار من منصبه كوالٍ لولاية النيل الأزرق، الذي يعتبره المحللون من أخطر القرارات. ويبقى السؤال هل ستندلع حرب الحدود والوجود في السودان؟ أم ما يزال في جعبة العقلاء بقية أمل.