{ أعترف أنه أسلوب خبيث للتحايل على الكتابة اليومية لمّا تكون في حالة اكتئاب من الموضوعات التي لا تجدي فيها كتابة! لكنه مع ذلك داخله نوع من الفائدة الفخمة والأنيقة، التي تحوّل الكاتب إلى قارئ جيد لمّا يكتبه غيره عبر مساحة مختارة كاستراحة، وتجعل القارئ الجيد - أصلاً - مستثمراً في الخيار المنتقى له بعناية، ليربح بها بعضاً من المزاج الجيد الذي أنتجه ذاك الاكتئاب..! كتب عمر الحاج موسى، رحمه الله، إلى د. منصور خالد، وكان وقتها الأخير وزيراً للتربية والتعليم: { عزيزي الدكتور منصور، وزير التربية قيام .. جلوس. (في معرض الحديث عمّا جرى بجامعة أم درمان الإسلامية، جرى على لسانك ولسان عدد من الإخوة حديث عن تخلفنا، ونحن نعيش السنين الأخيرة من القرن الميلادي. ولأن هذا الحديث قد فات دون تعليق فإنني أرجو أن أعقد مقارنة بين ما جرى في السنين الأولى من الهجرة مع ما يجري في السنين الأخيرة من القرون الميلادية لنحدد من المتخلف! لقد كانت الهجرة في اليوم الثامن من ربيع الأول الموافق الثاني من سبتمبر عام 622 ميلادية، وبدأ التأريخ الهجري كما تذكر في السادس عشر من شهر يوليو. يا صديقي العزيز، لأننا كنا نؤرخ بالهجري، ولم نهجر تعاليم الهجرة، فقد كانت خيولنا في كل بقاع الأرض شكيمة.. فمها على مشارف الصين وحلية ذنبها عند المحيط وأوربا! المسلمون هم أول من أدخل صناعة الأعشاب والعقاقير إلى أوربا، وحين عرف المسلمون الجراحة في القرون الأولى استأصلوا العدسة البللورية وفتتوا حصاة المثانة! وكان هذا قبل ثمانمائة سنة.. وللرزاي رسالة الجدري والحصباء، وهو أول من استخدم الشَعر في خياطة الجروح قبل عدة قرون، وذكرت الكتب أنه كان لإحدى كليات الطب بفرنسا أعظم وأصغر مكتبة مكونة من كتاب واحد، وقد جعلوا لصاحبها نصباً تذكارياً بإحدى كليات الطب بباريس، وإنّه الرازي! عالج المسلمون الهوس بالموسيقى، وبلقاء المريض بالأحباء! أنا لم أقل إنا فعلنا هذا كعرب، ولكنني أقول بأن ما جمع بيننا ونحن نفعل هذا هو الإسلام. من المكابر الذي يدعي أن لا فضل للعهد السلجوقي ولا لنهضة التيموريين في الحضارة الإسلامية؟ لن نقول هذا إلا إذا لم نسمع ب (بُخارى) و(سمرقند).. ومن الذي ينفي فضل الإمبراطورية المنغولية التي أهدت الفن الإسلامي (تاج محل) والتحفة الأدبية الشهيرة (أكبر نامة) والمؤلف الفخم الضخم (الشاه نامة) للفردوسي؟ من منكم يستطيع ان يقف لساعات ويخطب كما يخطب زياد (ابن أبيه) الذي لم يجد سيدنا عمر - رضى الله عنه - عذراَ يعتذر به حين نحاه إلا أن يقول إنه لم يعزله لعجز فيه أو خيانة، وإنما كره أن يحمل على الناس فضل عقله! منصور.. ماذا أنجبت قعداتكم؟ وهل قال أحد منكم قولاً أفجر ممّا قال أبو نوّاس في الخمر؟ فترفق بدمعك ولا تفنه بين يديك بكاءً طويلاً.. الفاتحة! فقد فات ألف عام منذ أن ذهب ابن زيدون ونثره.. أتذكره؟ يا مولاي وسيدي الذي ودادي له واعتمادي عليه واعتدادي به وامتدادي منه.. لست أطلب من كثير ممّن تعرف أن ينسج على منوال أبن زيدون، وإنما أرجو منك أن تطلب من كثيرين، وأنت وزير تربية، أن (يشكّلها) دع عنك يعربها: (احتمل واستطل واصبر وعز واهن وول واقبل وقل اسمع ومر اطع!) أين زهادكم؟ الفضيل بن عياض.. النابلسي.. الحلاّج بن عربي.. حذيفة بن اليمان.. سمنون.. مالك بن دينار.. الشعراني .. النابلسي.. الشاذلي الجنيد.. المرسي أبو العباس.. العز بن عبد السلام (قصة السبع أتذكرها)؟ والجيلاني (ساكن بغداد في كل بلد سوالو ولاد)! أين جديدكم؟ لا زلتم تجترون ما قاله (واصل بن عطاء) تلوكونه بعد كل صلاة: (إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك وهذا حالي لا يخفى في عليك)..! { هذه فقرات مقتطفة من خطابه، من كتاب (خطب وخطابات عمر الحاج موسى)، فانظروا معي كيف كان أدب الخلاف الشديد وكيف كانت الكتابة الحادة، ناعمة بتأدبها؟ { جمعة مباركة