ليس بإمكان أحد أن يزعم بأن قبائل اليسار هي وراء تحريك الشارع العربي في هذه المواسم الربيعية، فلقد انتهت حقبة الرفاق العرب منذ عقود عديدة، فبعد انهيار النظرية الماركسية في عقر دارها طفق الرفاق في المنطقة يبحثون عن وجهة أخرى، وفي المقابل إن التيارات العربية اليسارية هي الأخري من بعثيين وناصريين وقوميين لم تعد تطرب أحداً من هذه الأجيال، فلقد اختفى بعثيو العراق وها هي الأرض تهتز من تحت أقدام حزب البعث السوري الذي يتهاوى. كما ليس بإمكان الليبراليين العرب اختطاف ثمار هذه الثورات التي نهضت من أول يوم للإطاحة بهؤلاء الرؤساء العملاء للغرب، فهذه العروش التي تتهاوى والتي تهاوت في تونس ومصر وليبيا هي التي صنعتها واشنطن بليل الأمس ومر الذكريات، فالشعوب العربية لم تزج إلى ساحات التحرير والتغيير بأمر من واشنطن أو تل أبيب، بل لو استقدمت من أمري ما استدبرت لزعمت أن هذه الثورات العربية قد نهضت لتحطم القيود وتضع عن هذه الأمة أصرها والأغلال، فمنذ عقد من الزمان كنت أستمع لأحد قادة حركة حماس الفلسطينية وهو يقول «يكفي في هذه المرحلة أن نخزن أطناناً من الغضب الإسلامي والعربي والذي لا بد أن ينفجر يوماً»، فتبدو هذه الثورات كما لو أنها تثأر لأطفال غزة ونساء الضفة وأرامل القطاع. وإذا لم يكن الشيوعيون والليبراليون هم وراء الربيع العربي المبارك، ففي المقابل يمكننا الزعم بأن الإسلاميين هم من يصنع هذا الربيع، ويمكننا أيضاً أن نقدم بين يدي نجوانا وزعمنا هنا مجموعة شواهد ومشاهد. لقد ارتبطت هذه الثورات بالمساجد وهي تخرج كل جمعة من المساجد مستظلة بالشعارات الإسلامية، بل إن الثورة الليبية قد اتخذت من ذكرى فتح مكة وبدر الكبرى في رمضان أسوة وقدوة ومستلهماً وهي تقتحم حصن القذافي في باب العزيزية وكانت يومئذ بقيادة المقاتل الشرس بلحاج رئيس الجماعة الإسلامية الليبية الذي سلمته المخابرات الأمريكية في وقت سابق لنظام القذافي. وكانت الأجندة الإسلامية في الثورة المصرية أكثر من أن تعد على أصابع اليدين، فبدأت هذه الأجندة بشعار «مراجعة عقود الغاز المصري المصدر لإسرائيل» ثم تطور هذا الشعار لتفجير هذا الأنبوب أكثر من مرة ثم انتقل الأمر إلى المناداة بمراجعة اتفاقية كامب ديفد، بل والدعوة للخروج عنها نهائياً، وأنا أكتب هذا المقال وأمامي على شاشة الجزيرة مشهد الثوار المصريين وهم يقتحمون السفارة الإسرائيلية في القاهرة وينكسون علمها ويبعثرون أوراقها ومستنداتها ويعيثون فيها تنكيلاً وتخريباً. وكانت الثورة المصرية في وقت سابق قد تمكنت من فتح المعابر ودفع الفصائل الفلسطينية إلى المصالحة، وكان نظام مبارك يمثل عقبة كؤوداً أمام تصالح الفلسطينيين، ولقد بكت النخبة الإسرائيلية حسني مبارك كما لم تبك أحداً من قبله ووصفته بالصديق والكنز الهائل الذي افتقدته حين ثورة شعبية عارمة وباهظة. بل لقد قال العقيد معمر القذافي منذ فترة في تسجيل تلفزيوني قبل أن ينهار عليه حصن العزيزية، قال إن أكبر الخاسرين والمتضررين من ذهاب حكمه هي دولة إسرائيل، وإن الذين سيرثون عرش ليبيا هم الإسلاميون المتشددون. وفرية الإسلاميين المتشددين أظنها قد لا تنطلي على أحد، وذلك بدليل أن الجمعة الأخيرة التي عبر على متنها الإخوة المصريون إلى اقتحام السفارة الإسرائيلية كانت قد قاطعتها «الطيارات» الإسلامية، تيارات السلفيين والأخوان المسلمون والجماعة الإسلامية وأن هذا الصوت صوت الشعب، وأن هذا الشعب شعب مسلم. مخرج.. لن يستطيع الإسلاميون بمختلف مدارسهم مصادرة حقوق «الثورة الإسلامية» من جموع الشعب المسلم، لكن بإمكانهم أن يمثلوا رأس الرمح لهذه الثورات وأن يتولوا كبر مجاهداتها.