نحن نعيش الحياة بكل ما فيها من جهد ومشقة وصراع وألم وسعادة وإثم وخطيئة وندم وتوبة وفشل ونجاح ويأس وأمل وهزيمة وانتصار، وحينما تستحيل الحياة البشرية إلى سعي مستمر وراء المنفعة فإنها عندئذ لن تلبث أن تفقد معناها الأصلي وقيمتها الحقيقية فتتحول إلى سعي لاهث وراء بعض الوسائل أو الوسائط من أجل الوصول إلى الماديات، ولعل في هذا خواء في حياة الباحثين عن المنفعة، فهم يصبحون عبيداً للمصلحة دون أن يفكروا في القيم وأنه حينما يتلاشى في تلك الصبغة الرمادية التي يطلق عليها المنفعة فلا بد للحياة البشرية من أن تصبح غامضة مبتذلة، فلو وضع كل فرد منا نصب عينيه الجري وراء المصلحة بلا قيم وبلا حدود نشأ وراء هذا الهدف ضرب من الصراع والتعارض فتتشابك مصالح الأفراد فيكون تحقيق مطالبه على حساب الآخرين، على أن ذلك يخلق في نفس الفرد نوعاً من الأنانية فيغلب منفعته على الآخرين، مخالفاً بذلك ما تقتضي به قوانين العدالة والمبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك، ظاهرة خطيرة نعاني منها وهي التسويق بلا رقابة.. لم يكن هنالك ضمان لشراء أي شيء، ابتداء من الإبرة فقد تكون بلا ثقب (لو عندك خبرة في ثقب الإبرة أنت لازم تطلع)، أغنية من كلمات محجوب وغناء ليزا شاكر وإن لم تكن لديك خبرة تكون ضحية لهؤلاء الباعة المتجولين، فقيم المجتمع قد أصبحت بالية وثمة ممارسات جديدة أخذت تتفجر من أعماق التربية الاجتماعية وهي ناتجة عن مستويات الحياة الخلقية، بما فيها من مستويات الغريزة والضمير والأخلاق فالإنسان السوداني قد أدرك ما تنطوي عليه الحياة من متناقضات وتجاوزات وثراء مادي تصاعدي مفاجئ لأفراد خاوين يدعو للحيرة فأخذ يحاول بذلك جهد إرادي من أجل تغيير وضعه ومسايرته لهذا العالم المحيط به لتحقيق ذاته مما يؤثر ذلك على سلوكياته التي تؤثر على الآخرين وبهذا أصبحت الحالة العامة هي اللجوء للغش والخداع بشتى السبل وانتشارها بتنظيم من شبكات. هذه الحالة هي عملية تكيف مستمر يتحقق بين الكائن وبيئته، فالاتجاه النفعي الذي يتجه إليه هؤلاء المروجون في شتى صوره لا يزيد عن كونه مجرد اتجاه غائي أو غرضي يحيل الأخلاق بأسرها إلى آثار نافعة بلا أخلاق، فوجهة نظر المنفعة تتحكم في الكثير من مظاهر الحياة والسلوك. يسوق الباعة المتجولون العطور فيختارون مواقع استراتيجية يروجون بضاعتهم بحرية تامة بلا رقيب مروجين لزجاجات العطور المغشوشة والمحقونة بإرادة هوجاء وبتصرف مقصود مستتر يصدر عن فهم وتعقل للنتيجة (رويحتي فتيله)، الرجال الذين كانوا يفضلون عطر (الباترا ريحة الدكاترة) الأصلية أصبحوا يفتقدونها ويفتقدون أنواع الكلونيا الأصلية ويخدعون ببخة التجربة ذات الرائحة النفاذة والجودة العالية، لكن سرعان ما يجد الرجل نفسه أمام الأمر الواقع حينما يذهب إلى زوجته فيخبرها بأنه قد اشترى عطراً جميلاً بمبلغ بسيط فتكتشف زوجته ذات الخبرة في العطور بأن عطره عبارة عن ماء داخل زجاجة فيندهش (نفيسك شمعو جوه الفتيله) للمبالغة في وصف نفس الحبيبة فما يشع أو يعسكر هو الجيد بغية تأمينه والحفاظ عليه من المؤثرات الخارجية التي تتلفه والعطور الأصلية هي المشمعة داخل (فتيل العطر)، وعلى ضوء هذا يكون الضمان اتاني ابني يوماً وهو يحمل قارورة صندلية مشمعة ومسمكرة كان قد اشتراها من أحد الباعة النفعيين، كنت أعلم جيداً أنها مغشوشة فكانت دهشته كبيرة عندما وجدناها معبأة بزيت لا لون له ولا طعم ولا رائحة (إنتي ريحتك دمور فرير واللا بت السودان أصيل)، فالمرأة السودانية هي خير مشتر للعطور فتغنى صلاح بن البادية الذي ينتمي إلى قبيلة الدراميين بمسرحته لأغانيه على لسان الشاعر برغبته أن يكون تاجراً للعطور (عشان يكون بين الحسان وعشان تجيني يابدور وتعطري لي المكان). والعطر السوداني يتحدى أرقى العطور العالمية في الجودة بما فيه من تميز وجاذبية وسيدة العطور هي فرير دمور (المسّخ الأرياح) وأفضل العطور الزيتية هي الصندلية، أما العطور التي تدخل في تركيبة البخور فهي بت السودان وسواردي باريس ودور والصاروخ وقلامور إضافة للعطور الناشفة كالمسك والصندل والمحلب والشاف والضفرة، عطور فلكلورية لا نعلم أسماء من ابتدعنها من جداتنا وسر الخلطة الخاصة بالخمرة وهي العطر المعتق والمخلوط بمواصفات ومقاييس خاصة والتي توضع فيها (الجلادة) وهي عبارة عن جلدة صغيرة من حيوان تعتق الخمرة ويتوارثها الأجيال من البنات وتحتفظ بها المرأة في دولابها لاستعمالها الخاص. وتتغنى الأمهات لبناتهن بأغنية شبوته ياشبوته بالجلادة الفي الكبوته.. بدسك ما بوريكي الكريم ربي يغطيكي، ومعظم السلطات الأخلاقية لقيت الكثير من أسباب الضعف أو الوهن أو الانحلال أدت إلى عدم التمييز بين مبادئ الأخلاق وقواعد السلوك فنتج عن ذلك خلع قيمه المطلقة على بعض الجمعية بأساليب سيئة، هذا النظام أدخل في باب الخضوع للأهواء والشهوات. نموذج من العروض التي تقدم يومياً في ميدان جاكسون أبطالها مؤلفون ومخرجون وممثلون ومروجون للعطور يصطادون النساء ليشاركنهم في أداء الأدوار. ٭ بائع: لو سمحتي تعالي شوفي لي فرير دمور دي أصلية (أو الصندلية) دي كويسه لاني زوجتي ما ولدت ليها عشرة سنوات وحسي جابت لي ولد وداير أوديها ليها هدية كدي جربيها ووريني رأيك؟ امراة: كدي اشمها ٭ بائع: هاك دي اصلية وحسي بايع منها 50 فتيل اديها بخة في ضهر ايدها تشمها كيف (يبخ بخه) المرأة: والله كويسة وكمان فتايلو مسمكرة دي مضمونة. ٭ البائع: اشتري ليها كم ثلاثة أربعة. امرأة: لا كفاية اثنين لأنها غالية. بائع: أحسن تلاته لو عندك إمكانية ياخي ماتغلي على ولدك المنتظرو سنين بائع: والله وشك علي كويس أنا ليك مني العشرين جنيه دي تميها بديك فتيل (يعطي البائع العشرين جنيهاً) المرأة: لا شكراً الرجل: ده حلف (تأخذ المرأة العطر المغشوش بعد أن تدفع له المبلغ وتمضي). إن مثل هذه السلوكيات لا بد أن تولد آثاراً تكون بمثابة النتائج التي لا مناص من أن يتحملها الفرد فلا بد أن نفطن لذلك السلوك. تحتاج الأسواق إلى رقابة وغرس قواعد السلوك حتى يفطن أبناء هذا الجيل الحاضر إلى وجود قوانين أخلاقية مطلعة تكمن وراء شتى المواصفات الاجتماعية وبمواصفات ومقاييس العطور؛ غذاء الأحسايس فيجب ضبطها. ويارجالنا ادونا حق الريحه عشان ما تتغشوا. لنا لقاء