{ كنت أعكف على متابعة المبادرة الطيبة التى قدمها الزميل (زهير بانقا) عبر فضائية الخرطوم الواعدة لإقامة ليلة كبرى للوفاء والعرفان يعود ريعها لصالح الإسهام فى علاج (العندليب الأسمر/ زيدان إبراهيم) الذي ذهب مستشفياً إلى القاهرة ولا أعرف هل كان ذلك من باب المصادفة أم أنه آثر لقاء ربه فى مشهدٍ أخير يشبه إلى حدٍ كبير رحيل (العندليب الأسمر/عبدالحليم حافظ)؟!! { وكنا نمني النفس بنجاح ذلك الحفل الخيري الكبير لنؤكد لأنفسنا أولاً أن المودة والعرفان فينا لا يزالان بخير، على أمل أن يعود لنا العندليب فى تمام عافيته وعنفوانه.. وقد قامت اللجنة المختصة بإعداد كافة التجهيزات وتحديد المكان والزمان، على أن يكون لقاؤنا الوفي هذا فى رحاب (النادي العائلي) مساء الإثنين القادم! بل إنه قد تم تسجيل حلقة تعريفية عن المبادرة من برنامج (عشرة على عشرة)، بحضور بعض أفراد اللجنة الأفاضل، تزينهم الزميلة (أم وضاح)، على أن يتم بثها مساء أمس السبت. لهذا لم أستغرب حينما تلقيت مكالمة تلفونية صباحية باكرة من الأستاذ (زهير بانقا) على اعتبار أن الأمر سيكون متعلقاً بذلك الحفل الموعود، غير أن صوته الباكي قد جمد فيّ كل إحساس بالحماسة أو الأمل.. وباغتني بأن نعى إليّ (فراش القاش).. الذي سيعود القاش هذا العام فيجده قد هجر المجرى.. بلا رجعة!!! { فكيف لي أن أحدثكم عن أبعاد وتفاصيل (زيدان إبراهيم) فى حياتي وفقدنا واحد؟.. ومن تراني أعزيه فيه وكلنا مكلومون؟! وهو الرجل الذي شكل وجداننا جيلاً بعد جيل.. وعلمنا المحبة.. والتسامح.. وجعل لأحزاننا قداسة.. ولأشجاننا معنى. (زيدان).. الفنان.. الإنسان.. بتواضعه.. وهدوئه..ورقته.. وعذوبة كلماته وألحانه.. يحدثك عنه الجميع مؤكدين أنه لا يختلق المشاكل ولا يمعن فى العداء.. لا يفاصل فى مال.. ولا يضن بعطاء.. ملتزم فى حياته ومواعيده بذات القدر الذي التزم فيه تجاه فنه.. فلا يعرف له التاريخ هبوطاً أو تشويهاً.. وقد اختط لنفسه منذ البداية قبل نيف وأربعين عاماً خطاً فنياً نظيفاً وحالماً ومحترماً.. فكان الفنان الذي تتفق عليه كل البيوت والأسر السودانية.. وتحتفي بأغانيه وتحفظها عن ظهر قلب. { (زيدان).. الذي كتب قصائد فأبدع... ووضع ألحاناً فأشجى.. وغنى فأطرب وأشجن.. فتح أبواباً ل(الريدة العذرية)... وشغل البال فى انتظار العودة.. فكان ربيعاً لشبابنا الحالم.. وعلمنا كيف نمشي الدروب لأجل الآخرين.. وكيف يكون طعم الفرح فى حضرتهم حين تخوننا القوة والشدة؟!.. وأحسب أنها لم تخنه لأنه ظل صابراً محتملاً يعارك المرض فى صمت، وجسمه المنحول بفعل المعاناة والمحن يقاتل فى سبيل أن يودع أغنية جديدة فى حساب محبته لنا ليزيد قيمة كنوز المحبة تلك. { (زيدان).. الذي لم يكن يعنيه الخلود.. كتب اسمه بحروف من نبل على قائمة الرواد.. فكان صاحب مدرسة مختلفة ومميزة.. ولونية فنية محددة.. بحث عن الكلمة الشفيفة أينما كانت وقدم لنا بذلك أسماء لشعراء صغار كانوا مغمورين حتى فتح لهم هو باب النجومية على مصراعيه.. لم يكن يجامل على حساب فنه.. ولم يتخذه سبباً للثراء.. لذك عاش مستوراً ومات معدماً إلا من حبنا وإعجابنا الكبير به الذي لن يموت. { إذن.. سيبقى هو فينا ما تاقت أرواحنا لبعض الوصال النبيل.. وما تمردنا على إيقاع الحياة المنهك وتقنا لظل ٍ وريفٍ نركن إليه لنرتاح ونغتسل من عذاباتنا وفجيعتنا فى الآخرين، إذ لم يكن أمام هذا المرهف النحيل سوى الموت لأن هذه الدنيا الدنية لم تعد تتماشى مع أحلامه البسيطة النقية.. لهذا رحل، ولو كنا نعلم لآثرنا له الرحيل بين ظهرانينا لنحمله بين أيادي الوفاء بدلاً من أن يأتينا محمولاً على صندوق.. ولكنها إرادة الله التي جعلت أيامه الخوالي تنتهي بأرضً غير تلك التى رعته وسكب عليها العرق وصدع فى فضائها بالأماني العذبة والأغاني المعذبة. { ألا رحم الله (زيدان إبراهيم) برحمته الواسعة.. نسأله له المغفرة وحسن المآل.. ونرجوه أن يلهمنا ويلهم كل أهله وأصدقائه ومريديه الصبر وحسن العزاء.. أما السلوان فهذا ما لا نتمناه فهو باقٍ فينا لا ينسى... ولن ينسى. { يا الرحتا طولتا الغياب.. لو تعرف.. الدنيا من بعدك سراب!