{ وهذه كانت غاية أمانينا الطفولية البسيطة، أن نيمم وجوهنا صوب (الجنينة) فى أكبر متعة يمكن أن يهيئها لنا آباؤنا فى ذلك الزمن الجميل الذي لم تتغول فيه العولمة على براءة ألعابنا الشعبية ولا اغتال الانفتاح على كل شيء طموحاتنا المتواضعة. فقد كانت تلك الجنينة المعروفة رسمياً بحديقة الحيوان قبلة كل الأطفال وأسرهم، يسعون إليها طلباً ل«الاسترواح» والفسحة والمعرفة، ووجه المعرفة المشرق هنا كان يتمثل فى إقامة صداقات أسرية جميلة تمتد - حسب تجربتي المتواضعة - لزمن طويل من خلال مجرد لقاء عابر وسلام و«ونسة»، والجميع يفترش النجيل الأخضر الزاهي.. أما المعرفة الأكبر فكانت فى مشاهدتنا للحيوانات المختلفة بعيون مندهشة وأرواح سعيدة مرحة، إذ كانت الجنينة هى أفضل مكان يقدم خدمة التعريف بالحياة البرية من حولنا، كل هذا قبل أن تتاح لأبنائنا فرصة مشاهدة جميع الحيوانات التى تعنينا والتي لا تعنينا من خلال هذا التلفاز العجيب وفى جميع الأوقات.. فهل يعني هذا اندثار دور الجنينة التاريخي في حياتنا كتعبير عن منتهى رضى الوالدين عنا؟ { لقد كانت تلك الرحلة العظيمة الأبعاد بمثابة مكافأة عند النجاح أو عيدية في موسم الأعياد ننتظرها بترقب ونحرص عليها أشد الحرص حتى مات فينا هذا الفرح الغامر بقرار حكومي قضى بإغلاق حديقة الحيوان التي يأتيها الجميع من داخل وخارج الخرطوم لأسباب لم يكن عقلي المتواضع حينها يعنيه كثيراً البحث فيها، بقدر ما يعنيه حرماني من ذلك المشوار الأثير المحبب إلى نفسي كحال جميع أبناء جيلي. { والآن.. بعد أن حباني الله بنعمة الأمومة، ورغم ما يتمتع به أبنائي من ميزات وسوانح لم أحظ بها على كافة الأصعدة، كنت - حتى وقتٍ قريب - حزينة لأجلهم كونهم حرموا من هذه المتعة الحية واكتفوا بمنادمة هذه الشاشة الجامدة. وتمنيت لو كان بإمكاني أن أستقطع جزءاً من وقتي الثمين المراق على أعتاب اللهاث المضني وراء هذه الدنيا الدنية لأنظم لهم رحلات تعريفية وترفيهية منتظمة مثلما كانت تفعل معنا أمي - حفظها الله - فأنا أفخر بأني تمكنت فى طفولتي من زيارة جميع المتاحف التاريخية والعلمية داخل العاصمة، وتجولت فى كل المكتبات العامة طيب الله ثراها.. فمن منا الآن قام باصطحاب أطفاله مشكوراً فى زيارة إلى (بيت الخليفة) فى إطار مسؤولياته كأب أو كأم؟! وماذا يعرف أبناؤنا الآن عن (بوابة عبدالقيوم)، (والطابية) وغيرها من المعالم التاريخية اليتيمة؟ ناهيك عن المتحف القومي والحربي والرئاسي؟! { إن الحديث عن الهوية الضائعة لأبنائنا يطول ولكني أكتفي اليوم بأن أعرب عن سعادتي الغامرة وأزف البشرى لكل الأسر والأطفال بافتتاح (حديقة حيوانات كوكو)، التابعة لجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا - كلية الطب البيطري وتكنلوجيا الإنتاج الحيواني بمنطقة حلة كوكو، كأول حديقة حيوان متكاملة داخل العاصمة تتمتع بكافة الامتيازات التى تبحث عنها كل الأسر، وتعيد لدنيا الأطفال تلك العلاقة الحميمة والمبهرة مع الحيوانات بعد غياب لحوالي أكثر من عشرين عاماً عن وجه العاصمة. وقد قدر لي أن أقف على هذا المشروع الكبير وأتابع أبعاده الإيجابية على ملامح وأحاسيس أبنائي وحجم المتعة التي استشعروها خلال زيارتهم للحديقة المفتوحة أمام جميع الأسر ورياض الأطفال بمنتهى الرقي واللطف والترحاب والتعاون من القائمين عليها والذين وعدونا بالمزيد من التطوير واستجلاب المزيد من الحيوانات النادرة حتى يتم قريباً الافتتاح الرسمي الكبير والمهيب للحديقة التي نرجو أن تعيد المجد التليد لتلك العبارة العميقة بكل مدلولاتها القيمة، عسانا نعود فنسمع من أفواه جميع الأطفال وفي كل البيوت ما بين القفزات والتوق عبارة (ماشين جنينة حيوانات كوكو). مع أمنياتي للجميع هناك بالتوفيق. {تلويح: لم ولن أفلح أبداً فى تفسير ما رأيته على وجه أطفالي من فرح غامر لرؤية تلك الحيوانات عياناً بياناً.. كما لم أعرب عن ذلك الشجن الذى تداعى في خاطر ذكرياتي على طفولتي العزيزة بأيامها الترفيهية الخوالي.