يوم جديد والسحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين، كنت أتساءل لوحدي ساعتئذٍ: «كيف نستدعي فصول التاريخ دون أن نجعل للغياب حضوراً سحرياً في حياتنا»؟ ثمة رجال هنا وهنالك على قدر كبير من الأهمية، حفروا تفاصيلهم في جغرافيا وتاريخ الوطن، رحلة أخرى ل(الأهرام اليوم) للتقصي عن آخر ملوك الجعليين، خيط من الدخان الأبيض هنالك في شندي يستوقف الخطى كيفما دارت بعض من فصول الرواية، كان رفيقي قصاصاً للأثر تخيرته بعناية ليدلنا على الطريق الذي سلكه من قبل أحد أهم أبطال الملاحم الشعبية (المك نمر)، ولكنه لا أثر سوى نفحة تكرس للغموض.. لا أحد هنا يحتكر الحقيقة.. ثمة بريد مغلق يهبط في الخاطر، رحت على خطى (سعيد) (المتشائل) بطل رواية إميل حبيبي أستلف لسان أحد أبطال السودان: «أما بعد، فقد اختفيت. ولكنني لم أمت. ما قتلت على حدود كما توهم ناس منكم، وما انضممت إلى فدائيين كما توجس عارفو فضلي.. ما هربت، ولا أنا أتعفن منسيّاً في زنزانة كما تقول لأصحابك.. أنا بطل حقيقي».. يحدث هذا في بلد مترامية الأطراف، النيل بعيد جداً وقريب جداً والسيارة تنزلق على صحراء ممتدة ومخيفة. (1) كانت الجمال الناحلة تمر أمامنا بطيئة تخلف دخاناً من الرمال، من هنا بدأت رحلة المك نمر والتي انتهت إلى (قبر) في المتمة الحبشية، ومن هنا بدأت رحلتنا أيضاً، حكايته اليوم ممتعة وغريبة، فالمك نمر هو نمر بن محمد بن نمر بن عبدالسلام، ذاع صيته في واقعة الحرق الشهيرة التي أودت بحياة إسماعيل باشا، أول وصف له أورده عالم الآثار الفرنسي (فيدريك كايو) في سفره (رحلة إلى مروي والنيل الأبيض).. يقول كايو: «ذهبت لزيارة المك نمر ملك الجعليين وكانوا قد حذروني منه ومن بطشه وجبروته، ذهبت إليه ووجدته جالساً على (عنقريب) يتلو القرآن، ونسبة لعدم وجود مقعد بالغرفة فقد جلست بجواره، وظل الحرس وقوفا حولنا- ويمضي كايو في بورتريه بدأ رسمه للرجل عبر الكلمات: «يبلغ طول المك نمر ستة أقدام، يتميز بنظرة صارمة ومزاج قاتم وتبدو عليه سمة الهيبة والجبرة والرزانة والتعقل، وهو رجل مفعم بالاعتداد بالذات والجسارة، كان المك يتلفح بثوب من الكتان ناصع البياض وينتعل خفاً من الجلد (مركوب)، ويضع على رأسه طاقية وعمامة من الحرير الهندي المضلع وعلى عنقه سبحة وحجاب». (2) الفقرة التي أوردها كايو عن أول لقاء تم بين المك نمر وإسماعيل باشا تعتبر ذات قيمة تاريخة كبيرة نسبة لاختلاف الناس حولها.. رسم كابو صورة جميلة للمشهد المهيب لوصول المك نمر إلى حيث معسكر الجيش التركي الغازي: «إن اللقاء لا ينقصه الفتور ولا البرود، ولكن بالرغم من ذلك تبادل الباشا والمك الهدايا، ولم يتعرض إلى واقعة (الغليون)، ولكنه يؤكد أن المك خرج غاضباً فقط للاستقبال والوداع».. نفس هذه الصورة يرسمها لنا شيوخ القبيلة غير أن مهمتنا كانت مختلفة تماماً وهي تتبع مسالك الطرق التي عبرها المك، والمحطات التي أرخى سدوله فيها، القبائل التي آوته في رحلة شاقة ومتعبة، أدرك الرجل ساعتها أن المصير محتوم وأن الانتقام بعد واقعة الحرق واقع لا محالة بالرغم من الشبهات التي اختلطت في ذلك ولكنه التاريخ باستعادته الماكرة. (3) النهر والمساجد والحقول والمرتفعات الشاهقة في الطريق إلى تخوم الحبشة، لا بد أن الرجل أرهقه المسير، ولكنه تزوّد جيداً في ما يبدو، أنا الآن في شرق السودان وفي ولاية القضارف على وجه التحديد، نفسه الطريق الذي سلكه ملك الجعليين من قبل، هنا حيث شجر (الأندراب) والبيوت المعروشة بشوك الكتر، وفي صخرة عالية بالطريق كان يختبئ ثعبان خلع (قميصه) ومضى، كنت وحدي أتامل صدى صرخة في الفضاء المتسع، خيام الرشايدة بلونها الأحمر الداكن، قوافل البني عامر المهاجرة، وأصوات (ربابات) الشكرية بحنينها وحنانها، نهر عطبرة وخزان ستيت.. ليوم كامل وأنا في متاهات الصحراء، يغافلني جبل ويمازحني آخر، فأر صغير تومض عيناه ببريق الرغبة والطمع، بينما المتمة الحبشية ليست بعيدة من هنا، هنالك عاش وقُبر المك النمر، ولكن أين أحفاده؟ وهل طمرت معه كل الذكريات؟! (4) يبدو أنها ستمطر؟ هكذا قال رفيقي وهو ينظر للسماء من فوقنا، السيارة تتوحل في الرمال لبرهة من الزمن ونعرج باتجاه (حمداييت).. هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض، تعشوشب الممرات الجبلية بفضل الخريف، وتشق طريقاً قاسياً إلى محلية (ود الحليو)، أخبرني البعض أن هنالك حفيداً منسياً للمك نمر يعيش في (قطية) هنالك مع الحمران، حفيد يعرف كل شيء اسمه الزاكي، لم أتوان عن مطاردة ذلك الخيط بعد أن فشلت في العثور على قبر المك نمر.. ربما لأنني لا أستطيع العبور إلى أثيوبيا. كانت الشمس تتوارى شيئاً فشيئاً، يلتقط البصر ظل بيت مهجور، في هذا المنزل عاش الزاكي حفيد آخر ملوك الجعليين هو وأسرته، رجل فارع القامة طلق المحيا، في صوته حشرجة مهيبة، بيننا منطقة منزوعة الذكريات، يعيش في (قطية) مشيدة من القش والطين، معظم منازل الحي مشيدة على ذات الطراز، إنه سبتمبر الممطر والمفرح، والملح من أثر الدموع على جدار البيت، لقد فتح التقويم هكذا من ذاته، تناولت القهوة والشاي بخبز جاف واستمعت إلى حكايات جميلة وممتعة من حفيد المك نمر. (5) التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله معاً، ولكن الرواية المعتمدة هنا انتقلت من صدر حفيد إلى حفيد آخر.. اسمه الزاكي خالد عمارة المك نمر، وأول مغالطة يدحضها بالحديث ما أشيع عن ضرب المك نمر بالغليون، ينكرها الزاكي تماماً، ويقول: «يستحيل أن يحرق المك نمر شندي كلها بسبب رمية بكدوس، هذا كلام غير صحيح..!! المك نمر حرق إسماعيل باشا انتقاماً ل(بادي) ليس إلا، ويمضي الزاكي بالقول: «أنا لا أعتمد على مصادر التاريخ فقط وإنما أبوي مربياه ابنة المك نمر ست البنات، هي جاءت مع أبيها من شندي إلى هذا الموقع (ود الحليو) وتزوجها أحد فرسان قبيلة الحمران. (6) كيف وصل المك نمر إلى هذه البادية؟ طرحت السؤال على حفيده الزاكي فأجابني: «المك نمر أثناء حملة الدفتردار الانتقامية ترك شندي ومر بالقبائل التي تقع بين شندي والحبشة، وبحرقه لإسماعيل باشا وهو رمز للدولة العثمانية التي كانت أقوى دولة في الشرق لم تكن تستطيع أي قبيلة أن تأويه تجنباً للانتقام»، ويمضي سارداً: «شوف، بكل المقاييس نحن نعتبر هجرة المك نمر لبلاد الحبشة لجوءاً سياسياً، هو لجأ من دولة غازية إلى دولة جارة وليس من الحكمة أن يلقي بنفسه إلى التهلكة». (7) لا تزال هنالك أسئلة تتناسل، ثم ماذا بعد؟ هز محدثي رأسه واستطرد قائلاً: «المك لم يأت لود الحليو مباشرة وإنما وصل القضارف ونظارة الضبانية وهم في تحادد مع الحمران، غير أن الحمران أجاروه ورفضوا تسليمه فشكرهم، وعندما ذهب للحبشة قام ببناء المتمة المعروفة الآن»، ثم يستدرك الرجل: «أصلاً هنالك خور يفصل بين الحدود، وفي ضفة السودان هنالك مدينة القلابات، المك نمر عبر الخور وأسس مدينة المتمة الحبشية، كان متعباً ورفض التوغل، لكنه بعد ذلك ذهب وقابل الإمبراطور الأثيوبي ومنحه ذات المساحة التي يحكمها في شندي، المك نمر في الحبشة كان يحكم منطقة المتمة التي تسكنها قبائل أفريقية تمردت عليه في الأول ولكنه نجح بعد أن أخذ الإذن من الإمبراطور في إخضاعها لسلطانه، وكان زعيم التمرد اسمه محمد سرمبوك. الزاكي يقول إن المك نمر في آخر عمره كف بصره ومات ودفن في قرية قبتة، وتسلم بعده المكوكية جدنا الأرباب عمر، ومات ودفن هناك وخلفه الأرباب خالد الذي عقدت معه الحكومة اتفاقاً ليدخل السودان وعاش في منطقة الصوفي البشير وهى قريبة مسافة (10) كيلو من ود الحليو. (8) يمضي الزاكي حفيظاً على النسب ويقول إن المك خالد رحل وتزوج في شندي وأولاده اليوم موجودون في كبوشية والتحق بهم جدنا عمارة في شندي أيضاً، ودائماً بقولوا إذا المحنة بتورث كان ورثت الخال، ولذلك جدنا عمارة حن إلى أخواله وعاد مرة أخرى إلى ود الحليو وهذا سبب وجودنا هنا. مضت بنا الأحاديث مذاهب شتى دونت منها للزاكي قوله: «بالمناسبة الأرباب صلاح إدريس جدته قناوة بت المك نمر، ولكن أنا لا أعرف صلاح إدريس يعلم أو لا يعلم، نحن مسمين على حبوبة صلاح إدريس باعتبارها حبوبتنا، وإذا ذهبت إلى التميد حا تجد غناوة بت عمر ود الحسن وغناوة بت أحمد ود الحسن وغناوة بت العبيد ود الحسن وغناوة السيد محمد الحسن، كلهم مسميات على حبوبة صلاح إدريس، فصلاح إدريس المك نمر جده. (9) واحد من أهم الأسئلة تتعلق بمصير رفاة المك نمر، هل سيظل مدفوناً في المتمة الحبشية أم أن هنالك اتجاهاً من قبل أسرته بنقل رفاته إلى شندي ليعانق ترابها بعد مئات السنين بعد أن تركها مكرهاً، يجيب الزاكي بالقول بعد أن يأخذ نفساً عميقاً: «من ناحية دينية يجوز نقل رفاة المسلم من بلد نصراني أو غير مسلم إلى بلد مسلم، ثانياً المك نمر يعتبر رمزاً ورقماً كبيراً، ومن قبل تم نقل رفاة الشيخ المحجوب من حلفا القديمة إلى حلفاالجديدة بعد ترحيل الحلفاويين، وتم نقل رفاة السيد الهادي من داخل السودان فما بالك بأرض أخرى دفن فيها المك نمر، ونحن نحبذ وندعم أي محاولة لنقل رفاته ليدفن في شندي أو الخرطوم».