في مايو من العام (1992) هبطت على مدرج مطار العاصمة الكندية (أوتاوا) طائرة حملت على متنها الزعيم الإسلامي اللامع الدكتور حسن عبد الله الترابي. الرجل الذي غادر ردهات الكونغرس الأمريكي يومها بعد جلسة استماع عاصفة تفاجأ بنوع آخر من العواصف تهب ناحيته، وعلى إثر ضربة خطّافية كان من العسير تجنبها من قبل بطل (الفول كونتاكت) هاشم بدر الدين سقط الزعيم الإسلامي مغشياً عليه في رصيف المطار ليتم نقله بعدها إلى العناية الفائقة، وفي خاطر الجميع يومها أن عرّاب الإنقاذ فقد الذاكرة والنطق معاً وطويت صفحته للأبد.. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. هاشم بدر الدين برّر للحادثة على أنها جاءت بمحض المصادفة عطفاً على الاستفزاز والعنف الذي ووجه به من قبل حرس الترابي..!! تمضي السنين بعدها لترسم المقادير حادثة مشابهة في طريق نائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب الدكتور نافع علي نافع الذي تعرض لاعتداء ب(كرسي) من قبل شخص يدعى قاسم الطيب أثناء إلقائه محاضرة في ردهات السفارة السودانية بالعاصمة البريطانية لندن في السادس من يونيو المنصرم، كانت الإصابة طفيفة ولم تعطل مجرى الحديث بالرغم من كثافة وتقاطع الروايات حولها، بعد قرابة الشهرين من تلك الحادثة عاد الدكتور نافع في ندوة جامعة النيلين قبل يومين ليؤكّد صحة الحادثة ويعلق بأنها مفخرة له شخصياً، غير أن تراكمات تلك الوقائع وملابساتها دفقت في مجرى الذاكرة جملة من الأحداث المشابهة تمت بصلة للراهن أو تتصل بوقائع تاريخية معينة، فهل وصل الأمر إلى درجة الظاهرة؟! } من هم الساسة السودانيون الذين تم الاعتداء عليهم وأمطروا (بشباشب) و(حجارة)؟ عنف الجماهير أم عنف السلطة كان وراء تلك الحادثات؟ أم هو مجرّد (فش غباين)؟ وهل تندرج الاعتداءات من هذه الشاكلة تحت باب تصفية الخصومات السياسية أم هي سلوكيات فردية معزولة؟ (1) } في العام (1997) كانت القيادية بالحزب الشيوعي فاطمة أحمد إبراهيم تضع يدها على خدّها أثناء جلسة برلمانية اعتيادية.. فجأة لاح أمامها شبح من حسبته قاتل زوجها فاحمرّ وجهها بالكامل، وبلغت بها الرغبة في الثأر مبلغاً عظيماً.. أرملة الزعيم العمالي الراحل الشفيع أحمد الشيخ طلبت فرصة أثناء المداولات وعندما سمح لها رئيس الجلسة يومها (أتيم قرنق)، تحركت نحو النائب أبو القاسم محمد إبراهيم وانهالت عليه بالضرب وهي تردد في أسى «أنت قاتل، قتلت الشفيع وأنا لن أستمر في مجلس به قتلة». } الحزب الشيوعي أعرب عن أسفه للتصرف ووصفه بغير المقبول، واعتبر البعض أن الحزب الشيوعي لم يكن يريد البروز في ثوب الحانق المغبون، وأكثر من ذلك هناك من كان يرفض دخول فاطمة إلى البرلمان بالأساس واعتبرها فرصة لدفع رئيس البرلمان لفصلها، بينما ذهب آخرون إلى أن الحزب الشيوعي قرر التطهر من مظاهر العنف منذ أحداث بيت الضيافة وما لصق به من تهم. (2) } تمارين العنف الجماهيري أوقعت الرئيس السابق جعفر نميري في ورطة بذات الملامح في العام (1971)، نميري الضابط الوسيم الذي كانت تزين صدره النياشين كان يزور قرى ومناطق في النيل الأبيض ملوحا بعلامة النصر ليدلف نحوه أحد الأنصار ويضربه (بعكازته)، ولكن الرجل وبعد أن تم اعتقاله وإحضاره إلى النميري سأله الأخير لماذا تريد أن تقتلني؟ فكان رده «بقتلك وتاني لو فكوني بقتلك».. نميري أعجب بشجاعة الرجل فطلب من الأمن إطلاق سراحه. } الجمهوريون الذين يدينون ذلك المسلك من منطلق مبدئي خرجوا بزعيمهم في سبعينيات القرن المنصرم إلى مدينة الأبيض ليروج ل(الفكرة)، كان محمود ساعتئذ يتحدث في ندوة جماهيرية تحت ضوء القمر، فتقدم نحوه شخص ما وشجّ رأسه بعكّاز حتى تفجرت منه الدماء، سقط محمود مغشياً عليه وبعد أن أُسعف واستعاد وعيه تحدّث مع الرجل بمحبة وعفا عنه..!! } بعض من ذلك التهديد تعرض له ياسر عرمان عندما كان نائباً برلمانياً في الدورة السابقة فأشهر نائب برلماني (مسدساً) تجاهه كان يقوم بتعميره أثناء الجلسة وهدّده فاشتكى عرمان إلى رئيس البرلمان ليتم منع النواب بعدها مباشرة من الدخول بالأسلحة إلى قبة البرلمان. (3) } تفاصيل غامضة اكتنفت حادثة تعرّض نائب رئيس حزب الأمة آدم موسى مادبو، الرجل اصطدمت سيارته بأخرى في الطريق العام، والحادث الذي لزم بعده مادبّو سرير المستشفى بدا لأبنائه كأنه مدبّر، وجاءت إشارات من الرجل تؤكد هذا المذهب. } قبل هذه الحادثة بسنوات، وبعد عودة كوادر حزب الأمة من أحراش القتال تعرض الراحل عمر نور الدائم إلى حادثة ضرب (بحجر) من قبل أحد أفراد جيش الأمة، بدت ملابسات الحادثة غريبة ولكن غالب التقديرات مضت إلى أنها رفض من قبل مقاتلين في جيش الأمة لمسألة المصالحة مع النظام واستنكار لعملية (تفلحون). } في السياق يستدعي المراقبون عدة أحداث ناوشت الصحافيين إبان عملهم الذي يمضي مع تماسات كل ما هو سياسي في أغلب الأحايين. أبرز الأسماء التي تذكر في هذا السياق اسم الراحل محمد طه محمد أحمد. من أشهر الحادثات التي تعرض لها طه قبل اغتياله بالإضافة إلى حريق مقر صحيفته من قبل تيارات ناقمة على خطه التحريري، كانت محاولة الدهس التي تعرض لها أثناء خروجه من مقرّ مجلس الصحافة والمطبوعات بشارع كترينا، فعندما توسط طه الأسفلت يومها اتجهت نحوه عربة (بوكس) مسرعة. في همس الشارع تلك الأيام برز اسم أحد أنجال الزعيم الإسلامي، وفي البال هجوم حاد شنّه طه على الرجل في (الوفاق). } إذن عدد ليس بالقليل من الرجال في دروب ومنعرجات السياسة السودانية كانوا ضحايا عنف بدا نادراً في مسرح السياسة السودانية الذي يلهج مرتادوه بلسان حالهم ومقالهم: (إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها)، بيد أن الدائرة تمضي إلى اتساع، لتتناسل معها المخاوف تنشد دراسة الظاهرة لقتلها في المهد والتوافق على نهج يدين مذهب العنف بشكل قاطع. وميض ما سلف وما لم نرصد من مثيلات تلك الوقائع يشرع معقوف الاستفهامات وعلاماتها على اتساع مداراتها؛ من الذي يروج لذلك؟ القوى الطائفية أم القوى العقائدية؟ أم أن الأيديولوجيا لها حظوتها في نثر البذور وتهيئة التربة للفاسد والمعطوب من غرس العنف السياسي؟ (4) } المؤتمر الشعبي وعلى لسان أمينه السياسي كمال عمر يرفض المقارنة بين حادثة أوتاوا التي تعرض لها الدكتور الترابي وبين حادثة لندن التي أصابت الدكتور نافع ويقول كمال ل(الأهرام اليوم): ابتداء نحن نرفض الاعتداء على الساسة وندين الحادثتين لأنهما لا تنتميان لأي خلق ولا دين، والفرق أن ما قام به هاشم بدر الدين صورة قبيحة ناتجة عن اعتداء شخص محترف في فن (الكاراتيه)، ويتمتع بإمكانيات جسمانية قوية وهو يعمل هذه الإمكانيات في مفكّر ورمز ضعيف البنية، وهو مقبل من مناظرة في الكونغرس ليكافأ بذلك الاعتداء الوحشي..!! } كمال وصم بدر الدين بأنه عميل لجهات استخباراتية، نفذ تلك الخطة في رجل يفوق عمر والده، وعلى الرغم من ذلك فهو يكابر ويرفض الندم على فعلته، بينما كان من الأفيد أن يستخدم هاشم إمكانياته في شيء يفيد البلد، غير أن الاعتداء على نافع - والحديث ما زال لكمال عمر - يختلف لأنه تمّ في أجواء سياسية وتحت وقع الاستفزاز الذي مارسه نافع على الحضور ونتج عنه ردّ فعل معين وصفه ب(التلقائي). ويمضي كمال: الاعتداء شكلياً غير مقبول أما حادثة الترابي فقد كانت أمرا مدبراً ومقصوداً. } الأمين السياسي للشعبي برأ حزبه من واقعة الاعتداء على الراحل محمد طه محمد أحمد (بالبوكس) وقال إن المسألة كانت فردية ولا تعبّر عن موقف المؤتمر الشعبي مع أن الراحل وصل في الخصومة ما يصعب السكوت عليه إلا أن الاعتداء في حد ذاته لم يكن منظما. } عمر أضاف أنهم أصيبوا بالحجارة في كثير من الندوات وتم الاعتداء عليهم قبل أن يشير إلى أن ثقافة السيخ كانت رد فعل للعنف الذي مورس ضدهم، معتبراً أن الطائفية هي التي أدخلت في السياسة فقه العنف الجماهيري، حيث كانت في ذلك الوقت ترميهم بالحجارة وهم قلة على حدّ وصفه، وقال إن الاعتداءت التي تحدث بين الحين والآخر هي تراكمات الماضي متمنيا أن يستفاد من المسألة في التواضع على منهج التواصي بالخير ونبذ العنف، فالرسول صلى الله عليه وسلم - يمضي عمر بالقول - تعرض للشتم والإساءة من قبل المشركين وعندما فتح مكة عفا عنهم جميعا متأسياً بقاعدة التسامح، وفي المدينة أسّس لمجتمع الحريّات. كمال خلص إلى أنه لا ولن يستطيع أن ينسى حادثة الاعتداء على (شيخ حسن)، كما أنه لم يجد لها أي مبرر رغم تطاول الأمد..!! (5) أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين الدكتور مرتضى الطاهر الذي استنطقته (الأهرام اليوم) حول الموضوع يرى أن المسألة لا ترقى إلى حجم الظاهرة، فهي تتوسط المسافة بين أن تكون حوادث فردية أو جماعية منظمة، مفسراً ذلك بأن الوقائع الظاهرة تجعل حادثة معيّنة غير مقبولة بالنسبة لفرد قد يضطر للاعتداء على سياسي بسببها، وهو بذلك يعبر عن قيم مجموعة سياسية عاجزة عن الردّ..!! } مرتضى يلفت النظر إلى أن المجتمع لم يفوّض غالب الذين ينتهجون تلك الوسائل الانتقامية، مؤكّداً أن التعبير تتعدّد أنماطه باليد والقلب واللسان، وقد يختار المجتمع واحدا من ذلك، أما بخصوص حدة الفرز التي يندرج بسببها بعض الساسة في خانة الأعداء، فيرفض مرتضى ذلك التعميم ويقول إن الساسة جزء من المجتمع ولكن ثمة رأي سياسي قد يشكل حولهم موقفا. } الشموليون - بحسب الطاهر- هم أكثر من تعرضوا للاعتداء بسبب سلوكهم السياسي الذي يميل للهيمنة والقهر مشيراً إلى أن البرلمان السوداني يجوّز بعض الشتائم رداً على من يبادر بها، ولكنّه لا يقرّ مبدأ الاعتداء، ولم تشهد البرلمانات السودانية حوادث عنف سوى تلك المتعلقة بالملاسنات والعنف اللفظي الذي كان سائداً في حقب الديمقراطية، مؤكداً أن بعض الأحزاب كانت في الماضي تعبئ كوادرها ضد الخصوم ولكن اليوم أصبحت الجماهير واعية وتدرك مآلات الإقدام على أي فعل مشابه. } وعلى النقيض مما ذهب إليه كمال عمر فقد ردّ د. مرتضى حالات العنف السياسي إلى جماهير الأحزاب العقائدية كالإسلاميين وقوى اليسار، متفقاً معه على أن حادثة الاعتداء على الترابي من قبل تختبئ بين تضاعيفها نظرية المؤامرة باعتباره شخصية مؤثّرة على كافة الأصعدة تطرح نفسها كقائد للإسلام السياسي وداعية للإصلاح، فعليه لربما قرّر العالم الخارجي قطع رأس الحية، بينما حادثة الاعتداء على نافع في لندن أقرب إلى فعل فردي معزول ولا تعني بأية حال من الأحوال موقفا لحزب سياسي معارض.