يا صندل الليل المضاء لو زندها احتمل الندى لكسوت زندك ما تشاء ثوباً من العشب الطري وإبرتين من العبير وخيط ماء .. مصطفى سند.. شاعر من أم درمان. الأقدار وحدها هي التي رتبت لي لقاء على حافة مشهد العيد، مع الدكتور المعتمد الشيخ أبو كساوي، معتمد محلية أم درمان، وأبو كساوي بحسابات الصحافة يعتبر «صيداً ثميناً» طالما كان يجلس على سدة العاصمة الأهلية أم درمان «بوابة التاريخ»، وأتصور أن سدنة الحزب الحاكم لما جلسوا يوماً على حين اختبار وانتخاب لمقعد معتمد أم درمان، لا بد أنهم قد تمثلوا حكمة مهنية النجار، فالنجار يقيس سبع مرات ثم يقطع مرة واحدة، فأم درمان بطبيعة التاريخ والعراقة المدنية ليست «كالمعتمديات الريف» التي تحتاج لهتافية الجماهير، تحتاج فعلاً لمعتمد دكتور يعرف الدواء والدواء البديل وكثيراً من المصطلحات الإفرنجية، وأصدقكم القول، هذا للذين يقرأون بتطرف وأجندة مسبقة، وأنا أنفق هذا المقال، لأم درمان والتاريخ والعيد وأبو كساوي، أبذله لوجه الحقيقة، وبمثابة عيدية لمعتمدية شحيحة المقالات، لطالما هتفنا لبعض الوقت باسم شرق النيل وأمبدة وبحري، غير أن أم درمان «مسؤولية ثقيلة» وباهظة الكلفة الإدارية، فالذي قدّر له أن يجلس على سفح تلك المنارات المطرزة بالبطولات المرصعة بجواهر التاريخ، لا بد له أن يتطهر سبع مرات في بحيرة الثورة المهدية وأنهار الوطنية، غير أن أم درمان هي «رئة السودان» متنفس الثقافة والأدب والمسرح، وهي الموطن الأول للمايكروفون والكاميرات والموردة والهلال والمريخ.. إلخ. والدكتور أبو كساوي الذي عرفته أكثر في صيف 2007 وبعض شتاء 2008، يمتلك بعض هذه المفاتيح الهامة، جلست للرجل في تلك البناية الأثرية المهيبة، وفزعت في بادئ الأمر أن كانت تلك الإصلاحات التي تجري في هذا المبنى لتجديده، فقال أنا هنا فقط «أغسل بعض الأدران التي علقت على جدران التاريخ» وليس بمقدوري أن أجرف التاريخ أو أن أحرفه ولا ينبغي لي، ثم أخذني إلى مركز أم درمان الثقافي، وهو مركز فاخر من ذوات الخمس نجوم، كما لو أن فكرته استوحيت من «ثقافة إحياء التاريخ» وهو يستدعي لوحات وتراسيم لرموز هذه «المدينة المتحف»، فهنالك مساحة مقدرة جداً للتشكيليين، ومساحات أخر للثقافة والأدب والفكر، وحديقة شفافة وضعت مقاعدها ومقاهيها على صدر المحفل تطل على ميدان الخليفة، ويا له من ميدان ذلك الذي يفضي للمسجد وقبة المهدي. وتكمن عبقرية هذا المحفل الثقافي الذي تعهده السيد أبو كساوي بالرعاية والسدانة، أنه يصلح لمخاطبة ضيوف البلاد الكبار في بلاد غزيرة التاريخ شحيحة صالات عرض هذا التاريخ، فنحن الذين نصنع التاريخ ثم نذهب لنقرأه وتفرج عليه عند الآخرين، الآخرون هم الذين يكتبون ما نصنع بعد تحريفه، ولو لم يفعل الشيخ أبو كساوي إلا أن يحفظ بعض مشاهدنا الأثرية في هذه الصالات الرحيبة لكفاه ذلك تميزاً، لكن الرجل قد ذهب بعيداً في ضروب إنارة الطرقات وكسوة الأرض بالخضرة والأشجار، طرقات العرضة وكرري والشهيدة والشهداء والأربعين، وخضرة أخرى في الريفيرا وحديقة أم درمان الكبرى والحدائق الصغرى التي تتسور المدينة من الشواطئ والبحيرة وغيرها، غير أن ثورة الرجل الكبرى قد ادخرها لأعظم سوق ربما على مستوى السودان، السوق الشعبي في ثوبه الجديد المرتقب، وهو ينهض على طبقتين في مساحة ثمانية آلاف متر مربع، بحيث تتهيأ أم درمان للإعلان على أن أسواقها خالية تماماً من افتراش الخضار على قارعة الطرقات، ولئن كان هذا الضرب يخاطب قضايا الجماهير فإن مركز الرجل الثقافي يخاطب النخب. فليس ذلك كل ما هناك، فهنالك كثير من الأشواق والمكتسبات التي لم تسعها تلك الإطلالة القصيرة، ولم يسعفها هذا العمود الذي لا يحتمل حديث الكاميرا. فسلام على الرجل أبو كساوي في المعتمدين المجتهدين اللاحقين.. والحمد لله رب العالمين،