تيراب البنية.. مصطلح استمعنا إليه كثيراً ونحن أطفال، قصص وحكايات تقشعر لها الأبدان.. فتيراب البنية يعني عند من يسردون حكاياته أن يقوم الميت في اليوم الثاني أو الثالث من قبره بعد وفاته ولكنه لا يذهب إلى أهله مرة أخرى وإنما يذهب الى بلد آخر لا يعرفه فيه أحد فيعيش ويتعايش مع أهل هذا البلد، ودائماً ما يقال إن نبرات صوته «الميت» تكون متغيرة فيعود الى الحياة وصوته به (نخنخة)!! (تيراب البنية) تسرد حكاياته بعض الجهات، وقد توارث الناس هذا الاعتقاد جيلاً بعد جيل، إلا أن هناك قلة ما زالت تؤمن به.. التحقيق عن ما يسمى تيراب البنية الهدف من ورائه تبيان الحقيقة الكاملة للناس: ما حقيقة تيراب البنية بالضبط؟ ومن هو المسؤول عن رواج هذا المعتقد طيلة هذه العقود الطويلة من الزمان؟ هل هي معتقدات أم موروث أم قرين أم ماذا؟ وهل هي مثل الغول والبعاتي وفاطمة السمحة؟ وإن كانت كذلك، فلماذا تكرر ذكر منطقة محددة أكثر من مرة حيث قيل إن سكانها يعودون للحياة بعد موتهم؟ حادثة عالقة بالذاكرة «محمد علي» يقول: والدي عليه رحمة الله، كان يحكي لنا عن تيراب البنية، واندهاشه بما رآه لم يفارقه حتى توفي الى رحمة الله، وقد ظل يحكي عنه كلما جاءت المناسبة، فوالدي عليه الرحمة، كان يقول إنه عندما كان عمره خمسة عشر عاماً رأى «امرأة الجيران» التي توفيت قبل خمسة أيام وهي تنظر الى منزلها من بعيد ظناً منها أن أحداً لم يرها، وعندما أخذ والدي يصيح لها ويركض نحوها، ركضت واختفت، وظلت هذه الحادثة في رأسه الى أن توفي. حاولت اللحاق بها واختفت! عم حسين رجل كان يعمل سائقاً في شاحنات النقل الكبرى من الخرطوم الى غرب السودان، حيث طاب له المقام هناك وتزوج من بنات المنطقة وتعرف على كل أفراد المنطقة، يقول: أذكر أنه قد سبق لي أن رأيت إحدى بنات المنطقة التي توفيت قبل أيام وهي تعبر أمامي تريد أن (تقطع الزلط) وعندما أوقفت سياراتي أريد اللحاق بها وجدتها اختفت وهذا لم يكن المشهد الوحيد، فقد تكررت عليّ هذه الحادثة. حكايات متوارثة وفي استطلاع ل«الأهرام اليوم» حول ما يسمى ب(تيراب البنية)، تقول سامية حسين ابراهيم، ربة منزل: أنا في الأصل من مدينة الفاشر وقد عشت بها عمري كله، ومنذ أن وعيت في هذه الدنيا وأنا أسمع عن تيراب البنية ولكن الحق يقال، فأنا لم أر شخصاً بعد أيام من وفاته ولكني كنت أستمع الى والدي وهو يتحدث مع والدتي عن هذه الظاهرة فيقول لها مثلاً اليوم رأيت فلانة أو فلان وهم بالتأكيد ميتون، وحاولت اللحاق بهم ولكنهم اختفوا. وتواصل سامية قائلة بأن هناك مناطق محددة يتردد بها حدوث هذه الظاهرة. { وتؤكد هناء محمود «محامية» بأن ما يسمى بتيراب البنية ما هي خزعبلات ومعتقدات لا تمت للواقع ولا الدين بأدنى صلة، فالله تعالى لا يبعث الإنسان إلا يوم القيامة ليحاسبه على أعماله ولا توجد روح بعد أن ذهبت الى البزرخ عادت مرة أخرى. { وتقول «عواطف عثمان» ربة منزل، : كثيراً ما سمعنا عن هذا التيراب ولا ندري ما إذا كان حقيقة أم لا. { وفي ذات السياق يؤكد خالد محسن «خريج» بأن تيراب البنية موجود وليس خرافة ولا ادعاء حيث يقول: كنت أدرس في جامعة الفاشر، وكنت كثيراً ما أسمع عن تيراب البنية وعن قصص كثيرة تحكى لي وكنت أستمع وأعتبر الأمر مجرد (ونسة) ولا أعير الموضوع أية أهمية واعتبرته من موروثات بعض القبائل ومعتقداتها ولكن رأيت بأم عيني صديق صديقي الذي توفي قبل عام ونصف رأيته وأنا في طريق عودتي الى الخرطوم بعد انتهاء فترة الدراسة وكان ينظر اليّ ولم أستطع النزول إليه لأن البص كان في طريقه للسفر، وعن القبائل التي يعود أبناء للحياة مرة أخرى يقول خالد: لا علم لي بها بالضبط ولكن خلال فترة الدراسة سمعت عن بعض القبائل التي بها تيراب البنية. { وأخيراً يقول «السر علي»، موظف: إن تيراب البنية ما هو إلا خرافة للأسف استمرت لسنوات عديدة. تعلق بالأحباب وفي سياق متصل التقت «الأهرام اليوم» بالخبير النفسي «محمود عوض الله» حيث أكد بأن النفس أو الروح بعد مغادرتها تنتقل مباشرة الى حياة البرزخ وهو مرحلة ما بين الموت ويوم البعث وعموماً النفس البشرية نجدها دائماً ما تتعلق بالذين تحبهم فتراهم في أحلامها وتتخيلهم في واقعها، فتيراب البنية نسمع به منذ القدم ولم يوجد له تفسير منطقي سوى أن القرين هو الذي يتجسد في شخصيات هؤلاء الأموات وتوارث الأجيال جيلاً بعد جيل هذه الخرافة وهذا الزعم. آثار ممتدة وعن تيراب البنية يقول الدكتور «علي بلدو» أستاذ الطب النفسي والعصبي بأن هذه الظواهر والمعتقدات الثقافية تشكل رافداً مهماً في تكوين العقل الباطن الجمعي في الوسط والإقليم المحدد، والذي غالباً ما يكون بدوياً أو إقليمياً، وتنتقل هذه الاعتقادات حتى بعد الرحيل للمدينة نسبة لتأثيرها القوي على الأفراد الذين نشأوا عليها وتوارثوها جيلاً بعد جيل وبالتالي فإن البنية المعينة تكون عرضة لكثير من الضغط النفسي والشعور بملاحظة الآخرين والمجتمع ككل لها وهذا في حد ذاته يمثل حاجزاً في التواصل وبناء العلاقات على شكل سليم ومتناسق. ويواصل «بلدو» حديثه قائلاً: وعلى نفس السياق نجد هذا التيراب المزعوم تمتد آثاره حتى للأسرة والعلاقات الزوجية بكل ما فيها من تعقيدات وعلاقات متشابكة تشكل بيئة خصبة لظهور العديد من الظواهر السلوكية الجديرة بالدراسة والبحث. ومجمل القول إنه يجب النظر لهذه الأيقونة نظرة تراثية وثقافية وعدم الإيمان بها إيماناً مطلقاً وعدم التعامل معها وكأنها من المسلمات وكل ذلك تفادياً لأية آثار نفسية وسلوكية سالبة. خرافة جاثمة وحول ذات الموضوع يقول البروفيسور محمد عثمان صالح، الأمين العام لهيئة علماء السودان، إن معتقد تيراب البنية هو من الخرافات التي تجثم على عقول بعض البسطاء والعامة، وبالتأكيد أن الإنسان إذا مات لا يقوم إلا إذا نفخ في الصور وقامت القيامة كما جاء ذلك صريحاً في آيات القرآن الكريم، وعلى العلماء والدعاة والمعلمين أن ينبهوا الناس على خطورة هذا المعتقد المخالف لعقيدة الإسلام السمحة وهذه العقيدة الفاسدة في قيام بعض الأموات قبل يوم البعث تؤدي الى مفاسد كثيرة منها خوف الأطفال وإضعاف العقول، كما يمكن أن يستغلها بعض المشعوذين في الإضرار بالآخرين.