دعوني أبدأ من هناك لأعيد إنتاج هذه القصة من جديد، كتب الأخ الصديق الأستاذ إسحق فضل الله يوماً قصة مذهلة، وكان يومها يمارس ضربين اثنين، كتابة القصص وهندسة الطرق والكباري ولم يتفرغ للصحافة بعد، قال دخلت المكتب الأول فوجدت زميلي المهندس يقرأ الفصل الأخير من القصة ثم يبكي، ثم دخلت المكتب الآخر فانتظرت زميلتي المهندسة حتى تبلغ الفصل الأخير من القصة، ثم دخلت هي الأخرى في نوبة بكاء، يقول القاص إسحق فضل الله: «أنا ذاتي لما كنت أكتب الفصل الأخير من تلك القصة كنت أبكي»، وليتني، والحديث لصاحب الملاذات الآمنة، ليتني أمتلك نسخة من تلك القصة بفصلها الأخير لأبكي كما لم يبك إسحق وأجعل القراء يبكون، وإنها لعمري مواسم الحزن والبكاء. بالأمس اقتربت من الأخ إسحق، وكنا قد شددنا الرحال إليه بمدينة العيلفون لنقدم له واجب العزاء في وفاة والدته، عليها الرحمة والمغفرة والرضوان، وكنت برفقة الأستاذين السر علي الهادي وعبدالمنعم الزين، وبرغم احتشاد نجوم المجتمع وعامته، استرقت لحظات حزن ومواساة، فقلت للرجل الذي يعيش هذا الحدث الأليم بشفافية الفنان ورهافة الداهية الحصيف الذي يدرك قامة الأم في الحياة والدين، قلت إن فقد الوالدة شيء عظيم، فقال إسحق، «إنه الفصل الأخير في الحياة»، كما لو أن الإنسان يفقد أعظم متع الدنيا وأنفسها، ويضيف بتراجيديا مهيبة وهو يجتهد في أن يخفي حزناً هائلاً يحتاج كل أفئدته، قال «أنا آخر من لمستها وهي تنزل في قبرها، وأيضاً فعلت ذلك مع والدي عليه الرحمة، كنت في كل المرات آخر من يتحسس والدي وهما ينزلان إلى القبر.. هذا هو إسحق فضل الله المقاتل الشرس تروضه الأحزان وتجعله كطفل غرير، إنها تصاريف الأقدار، ولقد حزن رسول صلى الله عليه وسلم عند فقد ابنه إبراهيم وقال «إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع»، قال لي مرة الشيخ الصافي جعفر إن الذين «ينتهي حزنهم بمراسم التشييع والدفن» هم بالأحرى لا يمتلكون فضيلة الإنسانية في «الحزن والدموع» التي أقرها المصطفى صلى الله عليه وسلم. «إنه الفصل الأخير في حكاية القاص إسحق فضل الله»، فإن لم ندرك «الفصل الأخير» في قصته تلك التي أبكت زملاءه المهندسين، فها نحن الآن ندرك «الفصل الأخير» في «قصة رحيل الأم» التي أبكت دواخلنا وإن تجملنا أمام الحضور كما تجمّل هو بفضيلة الصبر والاحتساب. التقيت لأول مرة الكاتب القاص إسحق فضل الله في صدر التسعينات، وكان يومها قد تحول كلياً إلى مهنة الصحافة، وكان يومئذ أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما؛ إما أن يذهب لصناعة أحد الجسور بالجنوب، أو أن يقبل التكليف ويرأس تحرير مجلة الملتقى، فقال له رئيسه المباشر بالطرق والكباري «إنت صحفي وكاتب قد ضل طريقه للهندسة فاذهب إليها أنا لك من الناصحين»، فبعد عقدين من الممارسة ماذا خسرت الطرق والكباري، وفي المقابل كم كسبت الصحافة السودانية. ويقول بعض العارفين إن الجنوبيين يحبسون أنفاسهم يومياً ولا يستطيعون تناول قهوة الصباح إلا عندما يفرغون من قراءة عامود إسحق فضل الله بصحيفة الانتباهة. قال لي مرة المخرج سيف الدين حسن، الذي أخرج برنامج «في ساحة الفداء» في أنضر مواسمه، إن انضمام السينارست إسحق فضل الله للساحات هو بمثابة التحاق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدار الأرقم وإشهار إسلامه، فكان إضافة هائلة للساحات، بل كان أصبح هو ساحات الفداء نفسها. اللهم إن «أم إسحق» قد نزلت بدار مغفرتك، فاكرم نزلها وطيب مرقدها واغسلها بالماء والثلج والبرد، واكرمنا جميعاً إذا ما صرنا إلى ما صارت إليه، وأجر حبيبنا إسحق في مصيبته وأبدله خيراً.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).