عبر برنامج مبدع وزمن مساء الثلاثاء الماضي أعاد التلفزيون لقطات متنوِّعة من البرنامج الجماهيري (صور شعبية) لمعده ومقدمه الباحث الراحل الطيب محمد الطيب. وتعددت اللقطات بداية بجلوس الأديب الراحل الطيب صالح في حضرته وهو يتحدث عن التراث السوداني الثر حديث العارف ببواطن الأمور. والطيب محمد الطيب يستمع إليه في صمت ثم ترك الفرصة للمطرب أحمد الفرجوني ليقدم له الأغنية التي عرفها الناس عبر حنجرة المطرب الرائد الراحل عبد العزيز محمد داؤد وهى (إمتى أرجع لأم دُر وازورها)، ولحظتها كان الطيب صالح في إجازته قادماً من عاصمة الضباب (لندن) حيث يقيم وظل بها حتى وافته المنية مؤخراً. (رحمة الله ورضوانه عليه). وفي لقطة أخرى جمع جامع التراث السوداني الطيب محمد الطيب كل عصاة في الخرطوم في حلقة خصصها ل(العصي) فكان من ضيوفه محمود فلاح أمهر صانع عصي في السودان ومؤسس دار فلاح لتطوير الأغنية الشعبية في عام 1968م وهناك أيضاً البروفيسور الحبر يوسف نور الدائم المحاضر حينها بكلية الآداب بجامعة الخرطوم والمطرب الكبير كمال ترباس الذي كان في بواكير صباه وقدم رائعته (الشيخ سيرو) التي تحتوي على مفردة (العصا). وفي حلقة أخرى دخل الطيب محمد الطيب بأدبه الجم ديم أبو سعد أو (الفتيحاب) حيث جلس مع العمدة يحي ود سليمان وأولاد المك محمد ناصر وكبار زعامات المنطقة، وأظهرت الصور العمدة يحيى وهو يرتدي درع الحديد المصنوع منذ الثورة المهدية ودخول الإمام المهدي للخرطوم عبر بوابة ديم أبو سعد حيث وجد الحفاوة والكرم وفي الفتيحاب وتم (تشوين) جيشه بكل ما يحتاج إليه وعبر النيل وأتى أنصاره برأس غردون باشا، وتم له تحرير عاصمة البلاد معلناً قيام أول دولة سودانية ب(المعنى المفهوم) متماسكة الحدود الجغرافية والإدارية حتى تسنيْ ومصوَّع شرقاً وحتى أبشي التشادية غرباً. رجال الفتيحاب قرعوا النحاس، وركبوا صهوات جيادهم وغنى مطربهم أغنيات الحماسة على النيل الأبيض الذي يحد الفتيحاب شرقاً، فكانت لوحة أعادت ذكرى الثورة المهدية ولو للحظات لكنها كانت مهيبة. ولقطة ثالثة دخل فيها (جامع التراث) أرض الرشايدة بالبحر الأحمر وولاية كسلا فكشف النقاب عن تلك القبيلة السودانية المنقلغة على نفسها، وقال الطيب إنهم هاجروا من الجزيرة العربية إلى السودان في عام 1920م. تلفزيون السودان يكتنز الدرر ولا يتجمَّل إلاَّ بالقليل منها أحياناً، ولو كنت مديراً لهذا الجهاز لقمت بإعادة كل الماضى بكل فخر دون مونتاج ودون بتر لأن الذين مضوا هم أفضل ما أنجبت أرضنا هذا قياساً بما تركوه من إرث رفيع مقارنة بما ننتجه اليوم من برامج خاوية قوامها الديكور المبهر والأزياء البرَّاقة ثم لا شيء. أعيدوا حلقات هذا الباحث كلها حتى تعود لشباب السودان التائهين سودانيتهم، ولتنشر وزارة الثقافة جميع مخطوطاته دون حجب من (المسيد) حتى (الأنداية). فالرجل قال عنه مدير الإذاعة الأسبق صالح محمد صالح إنه بدأ بُعيد انطلاق البث الإذاعي في تقديم برامج التراث عبرها، وأبان أن كل مقدمي البرامج بالإذاعة كانوا يطلبون عونه. ومع انطلاق البث التلفزيوني أصبح مرجعاً لكل البرامج الاجتماعية وابتكر درته (صور شعبية) وقدمه لسبع وعشرين سنة متصلة وأنشأ مصلحة الثقافة مع التشكيلي الفذ إبراهيم الصلحي وكان مرجعاً للثقافة السودانية حتى فارق الدنيا (رحمة الله ورضوانه عليه) عزيزي الطيب محمد الطيب وأنت في رحاب ربك الذي لا يظلم عنده أحد فقد غدت بلادنا بعد رحيلك تعج بالباحثين في التراث ولم نفهم منهم شيئاً ولم يتكلف أحدهم أن يمشي ميلاً واحداً خارج الخرطوم ليأتينا بالمعلومة، فقط يبحثون فيما تركت . خروج أول: نبارك للسيد وزير الثقافة الاتحادي السموأل خلف الله القريش إعادة الثقة فيه وتعيينه مجدداً وزيراً للثقافة ولا أظن أن هناك عاقلاً ولا مجنوناً كان سيقبل بالجلوس على كرسي السموأل. فالرجل رفع سقف الإنجاز عالياً ولم يتعالَ على أحد. خروج أخير: نأمل أن يولي وزير الإعلام الجديد الإذاعة والتلفزيون القوميين مزيداً من الاهتمام والدعم وأن يراجع الأداء السابق بشفافية قبل أن يوقِّع كشوفات الصالح العام والإحالة للمعاش. فإن كثير من البرامج والخطط هزمتها الإمكانيات المادية وليس ضيق الأفق.