والنخلة غائبة بجذعها القوي، والسيدة تتكئ على حائط مائل يساقطها رطبة من العرق تسأل الله السترة فيرسلها لها رحيماً في أثواب النساء المارات والواقفات، اللائي يدرن عملية الولادة بفطرة وخبرة البقاء.. يخفين صوتها عالي الألم، بالبنج الموضعي لأهزوجتهنّ (يا حلّال الحاملة.. من غلاماً جاهلا.. جبريل ناجى ربو وجا.. حلاها الما بدور جزا)! وجزاء الفقر للأم “الحاملة” أن تلد كيفما فاجأها نهار الطلق على قارعة الطريق، في حافة كنبة انتظار، تحت شجرة بلا ظل، ما دامت لا تملك (حق) الولادة، ليس الرسوم لحجز جناح أو غرفة خمس نجوم، إنما حق الحقن والقطن و(البشارة)! والنسب تبيّن الوضع المقلق لارتفاع وفيات الأمهات ولا تفيد هنا كأرقام لكنها تعرفنا مستوى الاهتمام بالأمومة والطفولة، حيث إن الحقيقة المرّة التي نسمعها ونشاهدها بشكل ثابت حتى صارت واحدة من التيمات الأساسية في توصيف الحياة في السودان (العندو قرش بتعالج والما عندو يموت فطيس)! وفطنة المسؤولين حول مداركة الأمر يبدو بها شيء من البساطة التي تصل إلى حد السذاجة، فنسمع بمجانية العمليات القيصرية ونشاهد أرانيك وإيصالات، لا دفع لا تسليم! ونسمع بكليات ودورات تدريبية للقابلات القانونيات داخل وخارج البلاد، ونجر طويلاً حبل التوليد غير القانوني فينتهي بدار المايقوما! وتلد النساء الحوامل داخل الإطار الشرعي في الشارع! ونزغرد عالياً للولاة والمعتمدين ورؤساء اللجان حينما يقولون (إن المرأة هي مبلغ اهتمامنا ومنتهى غاياتنا وسنسعى لراحتها وإعدادها لنضمن مستقبل أولادناو..) فتهز النخلة كتفيها استغراباً. غرابة كل ما يحدث في فوضى الولادة في السودان، في كفّة، وما تديره مستشفى الدايات في كفّة! فهي رائدة التوليد في السودان بل وتقريباً أفريقيا والحاصلة على وسام الإنجاز قبل عامين، وكأس التميز الطبي والإداري من جمهورية أيرلندا قبل ثلاثة أعوام. وهي المرجع القانوني طبياً لكل الحالات الخاصة والمستعصية والحرجة في التوليد، (أم وطفل). هي جمهورية قائمة بذاتها من حكومة ترأس وشعب ينام ويأكل يشتري ويبيع، فيه الطبقات الخاصة والعامة، فيها العامل والمدير الظالم والمظلوم. هي جمهورية تهتم بالكلادن لشد وجه المبنى القديم وتترك وجه النساء (يتكرفس) من الألم والنهر والإحراج، يهتم كثيراً باللافتات الكبيرة الغالية لتبيان إنجازه وأوسمته ويترك (كرتونة) تسد شباك التذاكر! يهتم جداً بورقة الرسوم المدفوعة للولادة، ويتجاهل تعقيم غرف التوليد القيصري فتصل نسبة حالات الالتهاب الميكروبي إلى حوالي (15)% في الأمهات! الأمومة والطفولة هنا تتكئ على ظهر فاضي، لا يسندها حائط حقوق ولا قوانين فتقع كل حين تحت بند من بنود السياسات الطبية والاجتماعية والوجاهية، ويعلو صوتها حين مخاض قانون جديد أو مطالبات ناشطين، كما هزت حالة سيدة الحاج يوسف مؤخراً - وهي ليست الأخيرة - وجعلت الصحف والمنظمات تصرخ، بحقوق الحاملة، فإن هناك حالات الحوامل المتعايشات مع الأيدز وفي سياق متصل (دلفري) الشارع! يسارع الكوميديون في (السربعة) وهي فن تحويل الكلمات بما يقارب ومزاج كوميديا منقّح عن (مصر) فمثلاً يسمع المسربع من ينادي (الموز.. الموز) فيقول (الموز حق والحياة باطل)! والدايات بنظام السربعة الحكومية، يصبحن أكتر من الرايحات وهنّ النسي المنسي في حقوق الأمومة والطفولة السودانية.