الدعوات المرجفة والمرتجفة التي استهدفت اللغة العربية لضربها في عقر دارها لم تقصد إلا محو كيان الأمة العربية واقتلاع جذور الشخصية العربية بسماتها وملامحها العريقة فالقول الفج بأن لغتنا العربية أضعف من أن تستوعب المكونات العلمية والحياتية المتطورة، وبالتالي تكوين ذهنيات وأسس علمية واضحة، هو في حقيقة الأمر لا يمت للعربية بصلة لا من قريب ولا من بعيد ولكنه انهزام لدعاة منهزمين وإنه لمما يحمد لثورة التعليم العالي عندنا أنها عربت المناهج والتعريب لا كما يعتقد المستغربون خلاف المستشرقين، لا علاقة له بضعف العلوم أو إسفافها إن درست بالعربية فهناك دول متقدمة جداً في مجال العلوم المختلفة، ومجالات البحث العلمي تدرس بلغتها شرقية أو غربية، وهذا ما يطور اللغة جداً، وعلى خلاف ذلك نميتها بل نبيدها إن عزلناها عن العلوم والتقنيات، وتاريخياً احتلت اللغة العربية دورها الطليعي والطبيعي عندما كانت لغة العلوم في الطب والفلك والفيزياء والأحياء والكمياء وغير ذلك من العلوم، فقد ترجم العرب والمسلمون الأوائل كل العلوم، ونقلوها إلى العربية واستوعبوها فهماً وهضماً، ولولا جهودهم العلمية المقدرة لضاعت كل تلك العلوم اليونانية والفارسية والروسية والهندية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا حق لا يقوله المؤرخون العرب وحدهم، ولكنه كتبه وشهد به المستشرقون الأصدقاء والأعداء، فالحقيقة، كالشمس لا يخفيها عمى العيون ولا يفهم البعض أن التدريس بالعربية في مقاعد الدراسة المختلفة يعني إبعاد أو استبعاد واللغات الأخرى من قال هذا؟ لقد عرف العرب لغات الآخرين فترجموا عنهم، وإلا من أين لهم نقل كتب الطب والكيمياء والفلسفة من اللغات الأخرى في عصرهم؟ وإذا كانت الحاجة إلى اللغات سابقاً لها دور وإن كان ضعيفاً، إلا أننا في عصرنا هذا عصر العولمة نحتاج إلى لغات الآخرين، ونحتاج أن ننقل عنهم وننقل إليهم يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم عن قدرة العربية على الصلة والتواصل العلمي والأدبي: وسقت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصل آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عز الدواء أساتي فلا تلموني للزمان فإنني أخاف عليكم أن تحين وفاتي أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة وكم عز أقوام بعز لغات أيطربكم من جانب الغرب ناعب ينادي بوأدي في ربيع حياتي واللغة العربية واسعة، وقطعاً نحن لانحتاج إلى محو النحو، ولا أبعاد البلاغة، أو القضاء على الأدب، نحن محتاجون فقط أن نرتفع إلى مستوى اللغة، فنطوعها لعصرنا وعلومنا وأدبنا ومراحل الأدب من جاهلي إلى إسلامي وأموي وعباسي ومملوكي وعثماني وحديث إلا مراحل لغوية وأدبية وبلاغية قوة أو ضعفاً أو ما بينهما وقد كانت هناك محاولات رائدة وكبيرة للنهوض باللغة عبر كتابات الخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي والجاحظ وابن سلام، كما كانت هناك التقنيات المستوعبة والمبتكرة والمقننة من أمثال عبدالقاهر الجرجاني في البلاغة العربية، والذي يشيد لها صروحاً سامقة، ولكن أتى بعده من لم يبلغوا شأوه، فقط اهتموا بالشكل وأهملوا المضمون، ولا يخفى أن للاضطرابات السياسية، والأوضاع المتردية، والعقم الفكري المجتمعي، كل ذلك له دوره السلبي الذي لا يخفى على اجتهادات العلماء والمفكرين، أو كما عبر حافظ إبراهيم. ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالاً وأكفاء وأدت بناتي هل يمكن أن يكون هناك إبداع في ظلك الخمول الفكري والاستبداد السياسي، واحتقار العلماء والأدباء والمفكرين، وانصراف الحكام والأمراء عن تشجيع العلماء آنذاك وبعده ومكافأتهم لقد ازدهرت الترجمة والحركة العلمية، في عهد الدولة العباسية مثلاً لاهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء وإكرامهم والحفاوة بهم لقد أصبحت العلوم في عصر العولمة أكبر من أن تلاحق، لقد تلاحمت العلوم والآداب، واقتحمت كل أرجاء الدنيا دون استئذان ومن هنا أصبحت الدعوة إلى امتلاك لغة جديدة، وبلاغة جديدة، تنطلق من القديم لتعانق الحديث، متلائمة مع المستجدات المندفعة كالسيول، ضرورة حتمية، وواجباً قومياً ورسالة علمية وأدبية، التخلي عنها خور وانهزام.