الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم العلامة البروفسور عبد المجيد الطيب يكشف أسرارا مدهشة(2)!ا
نشر في الراكوبة يوم 24 - 10 - 2010

العالم العلامة البروفسور عبد المجيد الطيب يكشف أسرارا مدهشة(2)!!
بخيت النقر البطحاني – جدة
elnagarco @ yahoo.com
بعد الحلقة الاولى نتناول البحث من الالف الي الياء كما هو دون اضافة او حذف او تعديل على حلقات متوسطة الطول لتعم الفائدة الجميع وننوه القارئ الكريم الاطلاع على الحلقة الاولى حتى يكون لدية تصور عام عن البحث و اهميته وحتى يتنزه في هذه الحديقة الجميلة.بسم الله وعلى بركة الله نبدأ نزهتنا لنكشف اسرارا في كل حلقة .
الفصل الاول
المقدمة وتعريف المشكلة
مقدمة:
حسب اللُّغة العربية مكانة ورفعة وتشريفاً أن يصطفيها الله عزَّ وجلَّ دون لغات العالمين ويجعلها لغة للقرآن الكريم، الذي يحوي في ثناياه تعاليم وشرائع الإسلام ؛ تلك الرسالة الخاتمة الشاملة الموجهة للخلق أجمعين ؛ إنسهم وجنهم على السواء؛ وإلى الناس كافة على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وعلى اختلاف عصورهم وأزمانهم، وعلى اختلاف أمصارهم وبلدانهم {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً}(البقرة، آية:118). {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} (الشورى، آية:6). وحسب العربية مكانة وشرفاً وتعظيماً أن يصفها الله جلَّ شأنه بالوضوح والإبانة. {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(النحل، آية:102). والحقيقة التي لا خلاف عليها ؛ أن قمة ما تبلغه لغة ما في الشرف وعلو المكانة، أن تكون لغة مبينة، قادرة على الإشفاف والإفصاح عما في نفس المتحدث، وبنفس القدر تكون معقولة ومفهومة من قبل السامع أو المتلقي { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف،آية:3).{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}(فصلت، آية:43).
فما هي إذن تلك السمات التي خصَّ الله سبحانه وتعالى بها اللُّغة العربية، وميّزها بها حتى تبوأت هذه المكانة السَّامية بين لغات البشر؟ وكيف تهيأ لهذه اللُّغة الشريفة أن تبلغ ذلك الشأو الذي لم تبلغه لغة أخرى في تاريخ البشرية؟ والسؤال الأكثر إلحاحاً، لماذا ظلت هذه اللغة كما هي، رغم ضآلة الجهد الإنساني المبذول لحفظها ؛ لم تتبدل ولم تتغير؟ بل ولماذا لم تمت مثلما ماتت جميع اللَّغات التي سبقتها، والمعاصرة لها أوالتي جاءت بعدها؟ فقد شهد التاريخ موت الهيروغلوفية لغة الفراعنة وبناة الأهرام!، و شهد التاريخ موت اللُّغة الإغريقية واللغة اللاتينية ؛ وهما لغتان لإمبراطوريتين بلغتا في القوة شأواً عظيماً، وخضع لسلطانها ملوك مشارق الارض ومغاربها! ومن بعد ماتت اللغة العبرية والأرامية وهما أختا العربية حيث تعدان فرعين من فروع الدوحة السامية أصل العربية وأرومتها الراسخة.
وربما يتبادر للذهن مباشرة أن العربية لم تمت لأنها لغة دين. وهذا صحيح، ولكن يبقى السؤال ملحاً، لماذا ماتت الآرامية وهي لغة المسيح عليه السلام وهي أيضاً لغة دين إذ هي لغة الإنجيل وبها نزل؟ بل ولماذا ماتت العبرية وهي لغة التلمود والتوراة: كتاب الملَّة اليهودية. واليهود أكثر خلق الله دهاءً وأعظمهم مكراً، وأشدهم كيداً وتدبيراً، وأكثر النَّاس حرصاً على تراثهم وثقافتهم. كيف ماتت هذه اللَّغات واندثرت، ولم تمت العربية، ولم تتبدل ولم تتحول؟ إن في الأمر لسراً!
ثم يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: إذ كيف تسنى للعربية أن تصمد وتقاوم سلسلة من الابتلاءات والنكبات التي مرت بها الأمة؟ كيف قاومت هذه اللُّغة غزو المغول والتتار؟ وكيف تجاوزت كيد المستشرقين الحاقدين الذين ما فتئوا يلمزونها ويغمزونها ويرمونها بكل عيب وقصور؟ وكيف لها أن ظلت شامخة رغم محاولات بعض السذج من أبناء الأمة العربية الذين ينعقون بما لا يسمعون؟ هل صحيح ما يدَّعون بأنها لغة متخلِّفة لا تصلح لأن تكون أداة لتعلم العلوم الحديثة وتقنيات العصر؟ هل صحيح ما يدعون بأنها لغة صعبة ومعقدة وعصيِّة؟ وأن اللغات الأجنبية سهلة ميسورة؟ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف، آية:4).
هذه الأسئلة الملحة، وأسئلة أخرى أكثر إلحاحاً سوف تشكل المحاور الأساسية لهذه الدراسة ؛ حيث يسلط الباحث الضوء على بعض خصائص اللُّغة العربية وسماتها المميزة ويقارنها بسمات وخصائص اللغات الأخرى المعاصرة، عسى أن يقود ذلك إلى إدراك مكانة اللغة العربية المتفردة بين لغات العالمين. وعسى أن يستدل به على حقيقة أنَّ العربية، دون غيرها، من اللغات لغة سهلة مرنة معدة ومجهزة ومصممة لتبقى على مر العصور، مقاومة لكل عوامل الفناء والبلى والانقراض، بل ولكل مظاهر التبدل والانحراف أو التحريف. والحقيقة كما يلخصها د.عبد الصبور شاهين (1983 م): أن العربية وصلت إلينا معبرة عن تاريخ بعيد، وتراث عريق، ناطقة على ألسنتنا، كما كانت تنطق عن ألسنتهم، دون أن تستغرب، أو تستعجم. فأصولها وصيغها وتراكيبها، هي هي، لم يصبها التغيير رغم تطاول العهود، وتعاقب الأجيال. وهذا أمر نادر الحدوث في عالم اللغات لم يسجله التاريخ إلا للُّغة العربية، التي يقرأ القارئ اليوم نصوصها القديمة فلا يحس بِقِدَمِهَا، بل يأنس بها ويتلذذ بتكرارها وتمثُلِها، بل ويستخدمها في أحيان كثيرة.
ويمضي د. شاهين قائلاً: \"على حين أن نصوص اللُّغات الأخرى تستغلق على الفهم إذا مضى على إنشائها قرنان، بل قرن واحد، فتصبح من مخلفات التاريخ، وتُوضَع لتفسيرها المعاجم الكلاسيكية ؛ فأما إذا كانت بنت ثلاثة أو أربعة قرون فإنها تُعدُّ من مقتنيات المتاحف \" ( ص. 44 ) .
فالمعلوم عن تطور اللغات البشرية، أنها تبقى بقدر ما يتعاظم رصيدها من الآثار الأدبية والعلمية التي يبتدعها النابهون من بنيها، ولكن حتى ذلك لا يحول دون تغيير أصواتها ومفرداتها وتراكيبها حتى تصبح في مرحلة لاحقة من تاريخها خلقاً آخر. وتبقى اللُّغة العربية مثالاً متفرداً على خرق هذا الناموس وتخلف هذه القاعدة ؛ حيث بدأت مع انبثاق فجر الرسالة المحمدية مرحلة جديدة في حياة اللُّغة العربية الفصحى ؛ فهي كأنما تعاطت مع تعاليم هذه الرسالة الخالدة إكسير الحياة، وسر البقاء واستمدت من وَحيِها شجاعة المواجهة، وروح الثبات التي جعلتها لغة كل العصور والأزمان. فبقيت العربية كما كانت راسخة القدم مبنى ومعنى، قادرة على التعاطي مع متطلبات العصور المتلاحقة تشتق وتنحت من أصولها وجذورها، ما تعبر به عن مفاهيم العلوم والمعارف المتجددة، وتأخذ ما يلزمها من غيرها عند الضرورة القصوى دونما إفراط أو تفريط، وتهب لغيرها من اللغات ما تحتاجه بسخاء ودون منٍّ أو أذى. هذه هي اللُّغة العربية, هكذا كانت، وهكذا سوف تكون، إن شاء الله، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وهنا يبرز السؤال الأهم، ألا وهو ما هي الوسائل والأدوات والقوالب الجدلية التي يجب على الباحث استخدامها لتحديد مكانة اللُّغة العربية بين اللغات المعاصرة؟ وماهي المناهج البحثية والأُطُر التحليلية الحديثة، التي يمكن للباحث استخدامها لتكون له عوناً وسنداً لإظهار خصائص اللُّغة العربية وسماتها الفريدة التي تؤهلها لأن تكون لغة للعلوم والآداب والمعارف والفنون على مر الأيام وتعاقب الأجيال؟ وهنا تأتي الإجابة بداهة أن الأمر يتطلب جهداً ضعفاً، ويستلزم منهجاً علمياً قويماً، يستند على معطيات ومسلمات البحوث العلمية الحديثة، فينظر نظرة ثاقبة في متن المادة اللُّغوية أصواتاً وتراكيب، معانٍ ومباني، فيحلل ويقارن ويقابل حتى يصل إلى الحقائق مجردة، بعيداً عن العاطفة والانفعال. ثم يقدمها الباحث دليلاً وبرهاناً على صدق فرضياته ومرئياته آملاً أن يكون في ذلك هدىً وتثبيتٌ لقوم يتفكرون.
إلى من توجه هذه الدراسة:
يأتي هذا البحث في مجمله ليخاطب طوائف ثلاثاً. الطائفة الأولى هي طائفة المفكرين المتجردين الباحثين عن الحقيقة, لا يحول دونهم وقبولها سالف فكر أو سابق انتماء. فالحقيقة هي ضالتهم التي ينشدون، وبغيتهم التي عنها يبحثون. وعلى هؤلاء يعوِّل الباحث كثيراً ويخاطبهم بمستوى عقولهم النيِّرة، وأفئدتهم المشرئبة إلى الحق فيتبينون معالم هذه اللُّغة الشريفة وسماتها الفريدة، ومكانتها بين اللغات البشرية.
والطائفة الثانية يؤمن أفرادها بعظمة العربية وعلو مكانها إيماناً لا يتطرق إليه الشك ولا تخامره الظنون، ولكنهم ربما لا يملكون دليلاً علمياً أو برهاناً عملياً يفندون به دعاوى من يخالفهم في هذا الاعتقاد. فعلى هذه الطائفة تنزل هذه الدراسة برداً وسلاماً يشفي غليلهم ويثبِّت أفئدتهم ويقِّوي عقيدتهم، وتقدِّم البرهان على صدق اعتقادهم، فيزدادوا إيماناً على إيمانهم، بل وتقدم لهم الحجج والأدلة العلمية التي يقارعون بها من خالفهم الرأي والاعتقاد.
أما الطائفة الثالثة، فهم نفر يحملون توجهاً سلبياً نحو اللُّغة العربية، دافعهم إلى ذلك إما جهلهم بميزات هذه اللغة وسماتها المتفردة، أو قد يكون دافعهم الإحباط الذي يعيشونه جراء انهزام الأمة، وتخلفها وقعودها عن اللحاق بركب الأمم المتحضرة. فيولون وجههم شطر الغرب يقلدون أساليبه، وينظرون بمنظاره، ويرددون مقولاته بببغائية ساذجة، ويمارسون احتقار الذات بطريقة محزنة. ومرد ذلك إلى ضعف الهويَّة عندهم، وعقدة النقص، وفقدان الثقة بالنفس. فيحقرون كل ما يمت إلى الأمة بصلة، وعلى رأس ما يحتقرون لغة الأمة وثقافتها وأساليب حياتها. وهذه الفئة تحتاج إلى معالجة نفسية تزيل ما ران على قلوبهم من انكسار الهزيمة. وفي هذا الإطار، تأتي هذه الدراسة لتثبت بالدلائل والبراهين العملية، أن العربية لغة متفردة متطورة، تحمل في طياتها سر بقائها. فهي قادرة على الاستجابة لمتطلبات الحضارة والمعارف المتجددة ؛ وأن تخلف الأمة وقعودها عن مسايرة المشروعات الحضارية للأمم الأخرى، لا يعني بالضرورة ضعف لغتها أو تخلفها. بل إن الأمر عكس ذلك، فإن أريد للأمة أن تنهض من كبوتها، فلا مناص من الاهتمام باللغة، وأن تعطى من العناية ما تستحق. فلا سبيل لخلق أمة مبدعة متطورة من خلال لسان أجنبي. أنى يكون هذا واللغة ضمير الأمة، ووجدانها الحي، وعقلها المفكر وسبيلها لبناء حضارتها، وصيانة عزتها، واسترداد كرامتها، وتبوؤ مقعدها بين الأمم الراقية، ووسيلتها للإسهام في إثراء الحضارة الإنسانية، وإرساء دعائمها. هذه مهام ووظائف جسام, لا يمكن لأمة واعية أن تحلم بتحقيقها من خلال لسان أجنبي, ناهيك عن أن يكون ذلك اللسان أعجمياً.
منهج البحث وعدة الباحث وعتاده:
إن القيام بمثل هذا البحث يتطلب جهداً ضعفاً، ومعرفة متعمقة بأصول اللسانيات, وإتقاناً للغات التي يهدف الباحث إلى إجراء المقارنات والمقابلات بينها، واطلاعاً موسعا على تاريخ وتطور تلك اللغات وخلفياتها الثقافية والإثنية. كما يتطلب فهماً دقيقاً لأساليب البحث العلمي الحديث، وقدرةً على تحديد المصطلحات، واستخدامها استخداماً رشيداً، يضمن الحد الأدنى لفهمها من قبل القارئ. وقبل ذلك كله, فإن الأمر يحتاج إلى توفيق الله ورعايته وسنده وفتحه, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وهنا يمكن القول بأن الباحث، وبفضل من الله وتوفيقه، قد أتيحت له فرصة التسلح بالحد الأدنى من تلك العُدد، وذلك العتاد الذي يمكن أن يستعين به على إجراء هذه الدراسة التي يدرك تماماً أنها لن تكون نزهة عابرة، ولا ترفاً علمياً يؤدى في فضول الوقت، أو خارج الدوام. فالباحث كان قد تخرَّج في جامعة الخرطوم بُعيد منتصف السبعينات من القرن الماضي، بعد أن تخصص في اللغة العربية واللغة الإنجليزية معاً. ثم تحصَّل على الدبلوم العالي والماجستير في تعليم اللغات الأجنبية من الجامعات الأمريكية، ثم أكمل دراسته لنيل الدكتوراة في علم اللغة التطبيقي في جامعة ويلز البريطانية منذ منتصف الثمانينات. ثم توجه تلقاء الولايات المتحدة الأمريكية ليتلقى دراسة فوق الدكتوراه في علم اللغة في عدد من الجامعات الأمريكية الشهيرة، مثل جامعة جورج تاون, ومعهد ماسشوتس للتقنية (MIT) وجامعة نورثن أيوا، وأنديانا، بلومنفتون. وهناك التقى الباحث مجموعة من جهابزة هذا العلم, وعلى رأسهم العالم الشهير نُووم جومسكي وبروفيسور ويلقيا ريفر، وبروفيسور أديث هنانيا وآخرين من أساطين هذا التخصص، ودرس على أيديهم وحضر درسهم وحلقات نقاشهم وحاورهم، وأفاد من علومهم ومعارفهم الثرَّة.
والباحث، إضافة إلى معرفته التخصصية باللغتين العربية والإنجليزية، فهو مُلِمٌ بطرف من اللغات الأوروبية الأساسية مثل الفرنسية والألمانية وبعض اللغات الأفريقية.
يضاف لهذا الرصيد المعرفي باللغات، تجربة الباحث الثَّرة التي امتدت لأكثر من ربع قرن من الزمان في تدريس اللُّغة الإنجليزية بوصفها لغة أجنبية، في عدد من الجامعات العربية والآسيوية والإفريقية، حيث أثرت هذه التجربة المتطاولة حصيلته اللغوية، وأعطته معرفة تفصيلية بدقائق هذه اللُّغة وأسرارها وخباياها.
والحقيقة إن عمل الباحث في تلك الجامعات لم ينحصر في مجال التدريس، بل قام بالإشراف المباشر على عدد غير يسير من الرسائل العلمية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في مجال العلوم اللسانية. كما شارك في العديد من الندوات والسمنارات التي قدمت في رحاب تلك الجامعات، في مواسم ثقافية شتى، وحكَّم الباحث عدداً من البحوث المقدمة للترقية إلى مرتبة الأستاذية وما دونها، كما إن للباحث دراسات منشورة في عدد من الدوريات العالمية والإقليمية المتخصصة في العلوم الإنسانية والتربوية واللسانيات. على هذا الرصيد المعرفي والنظري والتطبيقي باللغات والعلوم اللسانية، يتكئ الباحث بعد توكله على الله عٌَز وجٌَل، لتقديم أطروحة علمية تظهر مكانة العربية بين اللغات المعاصرة، سائلاً الله العلي القدير أن يسهم هذا العمل في جلاء الحقيقة، وإظهار الخصائص الفريدة التي تتميز بها هذه اللغة العريقة، وتزيل ما ران عليها من ركام الافتراءات الزائفة التي تكال لها عن قصد تارة، وعن جهل تارة أخرى. فيكون ذلك البحث سبباً، إن شاء الله، في لفت نظر الناس لهذه اللغة الجليلة فيولونها ما هي جديرة به من احترام واهتمام, فتتبدي لهم كنوزها الغالية، ومفرداتها المعبرة الراقية، وأساليبها الشفيفه السامية، فيتخذها بنوها لساناً مبيناً يعبرون به عن آمالهم وطموحاتهم، وإبداعاتهم ومشاركاتهم العلمية في بناء صرح الحضارة الإنسانية. ومن ثَمَّ يدرك قيمتها الآخرون، فيتبنوها جسراً ومعبراً للتواصل بين طوائف بني الإنسان على اختلاف ألسنتهم وألوانهم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العالم اليوم يبحث، وبإلحاح، عن لغة عالمية مشتركة لتحقيق ذلك الهدف. وقد فشلت كل محاولات الباحثين لاختلاق لغة جديدة مثل \" الاسبرانتو \" للقيام بهذه المهمة. ولن يجد العالم محيصاً من اللجوء إلى لغة قياسية منطقية حَّية، ولن يجدوا لغة غير العربية للقيام بهذه الوظيفة. فهي بما لها من سمات قياسية، وقدرة على الإبانة، ودقة في التعبير، تمثل الأمل الأوحد الذي يلوح في الأفق لسد حاجة العالم في هذا المجال. فاللُّغة العربية هي لغة إنسانية صرفة لا تنتمي لعنصر، ولا تتحيَّز لفئة أو جنس، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ معظم الذين نبغوا فيها وألفوا بها أكرم المعارف، وأجٌَل العلوم، وأنفعها للإنسانية، أنهم لم يكونوا عرباً. وفي هذا إشارة واضحة لعالمية هذه اللغة، وانعتاقها من قيود العنصرية المهينة، أو المحلية الضيقة. فهي بذلك تكتسب سمة العالمية، وتكون لغة صالحة لكل الأجيال في كل زمان ومكان. والتاريخ يشهد أنها كانت لغة للإنتاج العلمي والفكري، ولساناً أبدع من خلاله أبناء الأمة الإسلامية الذين ينتمي أغلبهم لعرقيات غير عربية، ضروباً من المعارف والعلوم والفنون والآداب الراقية. وظل ما كتبه علماء العربية وبالعربية منهلاً وينبوعاً ثراً نهل منه علماء الغرب المحدثون, وباعترافهم هم، وأسسوا على هداه دعائم الحضارة الإنسانية المعاصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.