لم يتقاصر عزمه عن أدوار كبرى أوكلت له، فأحسن أداءها.. فتجربة برلمانية ثرّة وحقبة تنفيذيّة باهرة الأداء كفيلة بانصاف مردوده ضمن مجالات العمل العام ومكافحة الفساد، تماماً كما تشير لفعاليته العالية أيضاً إسهامات أخرى ضمن المشهد الدارفوري، وملفات الأزمات الوطنية الأخرى، التي تعاطى معها بإيجابية ولم يبخل بجهده وخبراته العلمية والعملية، كما لم يتوان عن تقديم الاستشارات وبذل النصح والافكار. إعلامياً بدأ اسم الرجل في السطوع بقوّة مطلع تسعينات القرن الماضي إبّان مشاركاته في لجنة الحسبة بالمجلس الوطني، حيث عُرف عنه ملاحقته الدائبة للتجاوزات وكل ما يفوح منه شبهة اهدار المال العام، قبل أن يتقلّد لاحقاً منصب وزير دولة بوزارة العدل. جرأته حيال مسائل الفساد وتصريحاته الاعلاميّة المتتابعة ضمن هذا الملف كانت وبالاً عليه - حسب ما يرى - فبارح المناصب قبل أن يبرح عضويّة الحزب الحاكم نفسه ليشارك مع د. لام اكول ومكى علي بلايل تأسيس حزب العدالة. القيادي السياسي والقانوني الضليع الأستاذ أمين بناني نيو؛ كانت لنا معه هذه الجلسة الحوارية خصّصناها بالكامل لاستقراء رؤاه حول المذكرة التصحيحية وتداعيات المسألة، معاً نتابع إفاداته: • جدل كثيف أثارته مذكرة (الألف أخ مؤخراً).. ما بين ناقم وناقد أو مؤيد ومرحب بما فيها ومحتواها.. نحاول هنا أن ننستقرئ مدلولات المذكرة ومراميها.. كيف تراها؟ - المذكرة أنا قرأتها في صحيفة (الانتباهة).. وهي منسوبة للإسلاميين داخل الحزب الحاكم المؤتمر الوطني، أعتقد أن مضمونها جيّد وهذا يعني أن الحزب الحاكم عنده ضمير ونفس لوّامة. وأتمنى أن تنتصر على النفس الأخرى فيه وهي النفس الأمّارة بالسوء التي تنتج الفساد وترفض النصح. وأتمنى أن لا تكون هذه المذكرة مزايدة من بعض الإسلاميين على الآخرين، مزايدة بالحديث عن قضايا الفساد والحديث عن قسمة السلطة وما شاكلها مما ورد في المذكرة لأن هذه القضايا لا تحتمل مثل هذا الطرح. • الحكومة أيضاً تقول أنها معنية بمكافحة الفساد وأنشأت من الآليات ما يسند دعواها في مجابهته.. هل الفساد الآن مستشر لهذه الدرجة؟ - الفساد كان في أطراف النظام لكن بدأ يتحرك حتى وصل إلى المركز أو قريباً منه. وكان في السفح، سفح الهرم ولكن بدأ يصعد إلى أعلى وبالتالي بدأ المركز يشعر بالفساد ويشتم رائحته. الحديث عن الفساد الآن يخرج من داخل المؤسسة الحاكمة والمذكرة نفسها دليل على ذلك. وبعد أن صمت برهة قال: - نحن الآن لا نتحدث عن الفساد، والشعب السوداني لا يتحدث عن الفساد لأن الشعب تحدث وسكت.. ونحن تحدثنا وسكتنا. • لماذا سكتُّم؟.. هل فقدتم الأمل؟ - لأننا لم نجد استجابة، ولكن الآن هم الذين يتحدثون، ونحن نرحّب بحديثهم هذا وننتظر. • إذن كيف ترى تعامل الحكومة وقيادة المؤتمر الوطني مع دعاوي الفساد وكيف تقيّمها؟ - أي جهد تجاه الإصلاح أنا أرحب به وعندما يأتي الحديث من أعلى الهرم في السلطة بأهمية محاربة الفساد هذا يعني - إذا صدقوا - أن هناك إرادة سياسية لمحاربة الفساد، وهذه الإرادة شرط ضروري لأي جهد في هذا الاتجاه، لكننا تعودنا مثل هذه التصريحات ويتم التراجع عنها نتيجة لضغوط تقع حتى على قمة الهرم. هذه المرة أرجو أن تمضي هذه الإرادة إلى الأمام. • حسناً.. في تقديرك متى بدأ (الفساد) داخل الإنقاذ؟ - الفساد داخل سلطة الإنقاذ بدأ مبكراً وحاولنا التصدي له عام 92 من خلال البرلمان وفي عام 2000م بعد المفاصلة من خلال وجودنا في وزارة العدل ووُجهت جهودنا بالرفض. نحن حاولنا أن نتعامل مع إخوتنا بمبدأ (النبيشة عيب) وأن ننصح ولكنهم لا يحبون الناصحين ونبتغي الإصلاح ما استطعنا وهم يقولون لنا (لنخرجنّكم من قريتنا أو لتعودُنّ في ملتنا)..!! نحن (خرجنا يعني خرجنا) ولن نعود إلى ملتهم تلك أبداً. ولكن عندما نكتشف أن هناك أصواتاً، هي ألف صوت والألف قلة من ملايين الأعضاء في الحزب الحاكم، فلا بد أن نسعد بهذه الأصوات ونرحّب بهذا الضمير الحي وبصوت الحق وأعتقد أن المذكرة تمثل هذا الضمير وهذا الصوت رغم أنني لا أعرف أي أحد حتى الآن من الذين يقفون وراءها. • أستاذ أمين هناك من يرى أن هذه المذكرة غير حقيقية، مذكرة وهمية صنعها المؤتمر الوطني وأراد بها حماية نفسه وتحصينها ضد أي احتجاجات أو انقلابات سواء من الداخل أو من خارج الوطن؟ - إذا كان ذلك كذلك، فهو الكذب الذي حذرت منه، وهو مكر لا يفيد، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. • هل هذا الاحتمال وارد؟ - طبعاً. نحن تعودنا على أساليب كثيرة ينتهجها الوطني وعلى ألاعيب كثيرة، ولكن عندما تتخذ هذه الأساليب من جهود الإصلاح وسيلة للغش، فهذا يكون افتراء وكذباً على الشعب ولن يفيد.. أنا لا يهمني من هذه المذكرة إلا مضمونها ونحن نرحب بهذا المضمون. • في تقديرك كيف سيتعامل المؤتمر الوطني معها؟ وما تأثيراتها المتوقعة؟ - طبعاً قوى الفساد في داخل السلطة ستتعامل بالترغيب والترهيب مع الذين كتبوا هذه المذكرة. • تُرى هل لهذا السبب أخفى الذين كتبوا المذكرة أنفسهم.. خوف أن يُتعامل معهم بالترهيب؟ - أنا أعتقد أن الذين كتبوا هذه المذكرة لا يريدون مواجهة مع الذين هم داخل السلطة، ولا يريدون تخريب المشروع الإسلامي الذي يتحدثون عنه ولا أعتقد أن من كتب هذه المذكرة جباناً أو خائفاً، لكن حكمنا على من كتب هذه المذكرة سيكون في المستقبل هل سيستمر أصحاب هذه المذكرة في جهدهم هذا أم يكتفون بها؟!.. لا شك أن الذين كتبوا هذه المذكرة يطلبون المساندة وهي مساندة يجب أن يطلبوها من آخرين في داخل الحزب. • لاحظنا أنهم من خلال ما حوته مذكرتهم بعثوا بتطمينات إلى قيادة الوطني بكونهم لن يحدثوا انشقاقاً، ولن ولن.. هل تتوقع أن يستمروا في جهودهم؟! - المطلوب منهم الاستمرار في جهودهم حتى يتحقق الإصلاح.. أما إذا كانت هي مجرد كلمات يكتبونها هكذا في السر وينتظرون ما تثيره من ردود أفعال فهذا... ثم قال بسرعة: هم بعملهم هذا يكونوا قد فتحوا الطريق أمام آخرين داخل الحزب ليقودوا عملية التصحيح، والنار من مستصغر الشرر، والتغيير يبدأ هكذا. فأنا أتوقع أن تكون هذه المذكرة بداية لمرحلة جديدة في مسيرة الحكم، وإلى الله تصير الأمور. • التطمينات التي حوتها المذكرة لقيادة الوطني بأن الذين كتبوها لن يفعلوا أكثر من كتابة المذكرات.. ألا ترى أنها ستدفع الوطني إلى التراخي في التعامل مع محتواها؟ - المذكرة نفسها جاءت نتيجة تعاملات كثيرة على مستوى الحكم وعلى مستوى الدولة وعلى مستوى المجتمع السوداني، وهذه التفاعلات هي خارج سيطرة الذين كتبوا المذكرة وخارج سيطرة نظام الحكم نفسه. عوامل التغيير الآن كثيرة ومواجهة الواقع لا تتم إلا عبر ردود فعل إيجابية من داخل النظام وإذا أغفل الحكام مضمون هذه المذكرة حتماً ستكون هي أول بيان للثورة السياسية. • ثورة من داخل المؤتمر الوطني؟ - ثورة عامة سياسية واجتماعية، الكلام الذي حوته المذكرة واضح، الفساد ظاهر، والحديث عنه متداول في الصحف وفي... • المعارضة كانت وما زالت تقوم بجهود لإشعال الثورة، في تقديركم هل هذه المذكرة تخدم هذه الجهود وتصب في صالحها؟ - نعم، هذه المذكرة قاربت بين المعارضة وقوى الإصلاح في داخل النظام الحاكم. (فالحكاية ما لعب).. أنا أرحب بهذه المذكرة وأرحب بالقوى التي كتبتها، حقيقية كانت أم وهمية.. هي مذكرة مريحة بالنسبة لي وهذا الكلام الذي حوته أنا أقوله منذ سنوات.. الثورات التي حصلت الآن في داخل النظم العربية ابتدأ بها أناس من خارج النظام ولكن العامل الحاسم فيها كان هو تجاوب قوى أخرى داخل النظام تعتمد على رصيد كبير داخل النظام المراد تغييره. هذه المذكرة هي أول تجاوب مع صوت المعارضة وصوت الشعب في أهمية إحداث تغيير قد يؤدي إلى تغيير نظام الحكم أو إسقاطه.