ظاهرة سودانية: من بين الظواهر السودانية الواضحة، المتعمقة الجذور، تأتي ظاهرة الاعتدال في كل شيء، لم يعرف السودان تطرفاً يؤدي إلى الإرهاب، ولا إرهاباً يأتي من التطرف، وعرفت علاقة الإسلام بالمسيحية أحلى موجات الاعتدال، وأرقى أنواع الحب، وأسمى دروب التلاقي، ولكن بين الحين والآخر تطل علينا مجموعة متطرفة بكلام كله تطرف، وتطالب المسلم بأن لا يتعامل مع المسيحي لأنه بوضوح إنسان كافر، ومن يتعامل مع الكافر لا بد يكون كافراً، والغريب أن من ينادي بهذا لا يبتعد فقط عن خط الاعتدال، أو الوسط، ولكنه يقول ما لا يفهم، ويلقي عرض الحائط بتعاليم القرآن الجميلة، التي نادت بأن المسيحية ديانة لها احترامها ولها قدسيتها، وذات علاقة طيبة، ووصف القرآن النصارى بأنهم أقربهم مودة لأخوانهم المسلمين، وكيف يكون الود إن كنا نرفض للمسلم أن يهنئ المسيحي بأعياد ميلاد السيد المسيح؟! وكانت شهادات الإسلام عديدة تحتاج إلى كتاب وليس إلى مقال واحد، والقرآن الكريم شاهد للمسيحية، ومؤئداً لصدقها، (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) «المائدة47»، والمسيحيون عموماً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة «62». والمسيحيون أهل كتاب وهم: أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114) «آل عمران»، وهناك نصوص قرآنية كثيرة تؤكد أن القرآن قلب الإسلام الحي وضع المسيحية في أرقى مكان. لقد جرح مشاعري ومشاعر كثيرين ما حدث عندما غطت منشورات عديدة أعمدة الأسمنت، وبعض الأكشاك تطالب المسلمين بأن لا يشتركوا مع المسيحيين في أعياد ميلاد السيد المسيح، وتعتبر من يصنع هذا كافراً، ولم أكن أرغب في الرد عليهم، وتوقعت أن يكتب غيري من إخواني المسلمين ضد هذه الظاهرة التي لا تعبر عن فكر أي مسلم، ولا تعرف شيئاً عن القرآن الكريم، ولا عن تصرفات وأقوال الرسول الكريم، ومن تبعه من الأئمة. وأقدم لكم اليوم ما جاء في جريدة الصحافة تحت عنوان الاعتدال يتراجع بقلم النور أحمد النور، رئيس تحرير الصحافة في 2/1/2012م فإلى المقال: المفكر عبدالرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد يرى أن أقبح أنواع الاستبداد هو استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلت نعمتهُ خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل. رجعت للكواكبي بعد ما شاهدت خلال اليومين الماضيين المنشورات والملصقات التي عُلقت على جدران مواقع عامة وسط الأسواق وفي أعمدة الكهرباء الأسمنتية في بعض الأحياء وزعتها جماعة مجهولة تحرم الاحتفال برأس السنة والكريسماس، وتعتبر الفرح بهما تشبهاً باليهود والنصارى. وبقدر ما حزنت لهذا التطرف والغلو في التفكير فقد ارتحت أن زرافات ووجدانا من بني شعبي فرحوا حتى الساعات الأولى من صباح أمس (ليلة رأس السنة الميلادية) في الطرقات العامة، وهو فرح جميل وإن لم يخل في بعض جوانبه من تجاوزات ولكنها حالات شاذة، ولعبت الشرطة وخاصة شرطة المرور جهداً كبيراً في تنظيمه بطريقة رائعة تستحق عليها الإشادة والتقدير. ولم يمنع الإسلام ومذاهب الأئمة الأربعة الفرح بالمناسبات العامة والوطنية مع اختلافها في درجات التسامح والتشدد، وظهر أمس على شاشة التلفزيون الرسمي للدولة أحد العلماء يتحدث بطريقة مستفزة حين قال إن من كانوا يحتفلون برأس السنة والكريسماس ذهبوا في إشارة إلى انفصال الجنوب، ودعا من يريدون الاحتفال بالمناسبتين أن يلحقوا بهم، ولا أدري من يقصد، وقال العالم إن أعياد المسلمين معروفة «أي العيدين»، وكأني به يريد من السودانيين عدم الفرح إلا في العيدين وما عداهما من فرح فهو بدعة، تخيلوا حتى الإعلام الرسمي يروج للغلو والتشدد؟؟!!. إنها ظاهرة غريبة بدأت تطل برأسها في السنوات الأخيرة على مجتمعنا السوداني المعروف تاريخياً بتسامحه الديني وتعايشه السلمي، وصار التكفير والتشدد والغلو الديني معتاداً بعد تزايد نشاط بعض الجماعات الراديكالية التي تحظى بصمت بل وتقدير جهات في الدولة ترى فيها حليفاً واحتضنتها، ولا تدري أن من يربي الذئاب لن يسلم من شرورها. والتربة السودانية متسامحة وغير جاذبة للتطرف لكن المجتمع السوداني تعرض لعوامل التعرية والتغيَّر والتحول، بعضها عبر التاريخ وأخرى خارجية، وقد كان الاستعمار الإنجليزي يحارب تسرب الفكر السلفي إلى السودان، باعتباره مهدداً أمنياً، كما ظهرت جماعات التكفير والهجرة، التي كانت فاعلة في مصر، ولكنها وفدت إلينا عبر الخليج، وحرب أفغانستان شارك فيها بعض شبابنا لمحاربة العدو الشيوعي، دفعت بعضهم إلى الانتماء إلى جماعات تكفيرية، فهذه تغيرات اجتماعية وفكرية، وليس السودان بمعزل عنها. والمناخ في البلاد من أول التسعينيات كان مجيشاً ضد الغرب، وتأثر بعض الشباب بالأناشيد الجهادية، وذهبوا إلى الجنوب، وحين عودتهم فوجئوا بفتاوي تطعن في حقيقة ما قاموا به، فوظفوا هذه العاطفة الدينية الجياشة في تشكيل خلايا متطرفة، وإصدار فتاوي متشددة لا تراعي أصول الدين ومقتضيات العصر. وبعض الشباب يدخلون الجامعات من سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة، ويغلقون أنفسهم في الجوانب العلمية البحتة، وهؤلاء لم تتح لهم عبر مراحلهم المختلفة، مناشط فكرية وثقافية وفنية، وبعضهم بحكم التكوين الشخصي والأسري، يرون في الرقص والغناء، شكلاً من أشكال الفجور، ولذا فإنهم يهيئون أنفسهم للفكر المنغلق، وعند دخولهم الجامعة، يجدونها مجتمعاً منفتحاً، وهنا يتم استدراجهم إلى الفكر المتشدد. ويبدو أن الفراغ الفكري الذي تركته الحركة الإسلامية لاستغراقها في السياسة وتراجع دور الطرق الصوفية في المجتمع وتقصير الدعاة وغياب دور المرشدين الذين ينتهجون منهج الوسط والاعتدال، كل هذه العوامل ساهمت في تمدد هذا التيار المتشدد، وهو أكبر خطر يواجه الإسلام ويشوه صورته، مما يهدد أمن وسلامة المجتمع، والبلاد بأسرها لأن ما يترتب على التفكير هو جواز القتل، الشيء الذي يفتح الباب واسعاً أمام دورة من العنف. ومما يؤسف له غفلة المؤسسات الرسمية عن هذا الخطر المتنامي رغم ادعاء الدولة حرصها على الإسلام وتصحيحه مما يلحق به من تشوهات، والمطلوب لمواجهة هذا الخطر تقوية آليات الخطاب الاجتماعي والسياسي وتشجيع الفكر المعاصر والتكامل بين الدولة ومراكز البحث والتفكير والأسرة والمدرسة من خلال المناهج ووسائل الإعلام الحديث باعتبارها الأب الثالث للطفل.