ربما كان الكولمبي (غابيتو) يعني الصراع المتصالح بين الاتحادي الأصل والمؤتمر الوطني، عندما قال إن الفرق بين الليبراليين والمحافظين لا يتعدى أن الليبراليين يذهبون إلى قداس الخامسة لكيلا يراهم المحافظون في قداس الثامنة. والشاهد أن الناطق الرسمي للاتحادي حاتم السر لم يتورع الأسبوع الماضي وهو يتأبط ملف كادرهم المعتقل – وقتها – إبراهيم مجذوب ليضعه على منضدة مسؤول منظمة العفو الدولية بعاصمة الضباب لندن التي لم تكن بأي حال من الأحوال أكثر ضبابية من موقف حزبه الذاتي، بل والموضوعي، وهو يقتص من سلطة يمثل إحدى لبناتها. وهو ما تكرر أمس الأول عندما أصدر المراقب العام للحزب بابكر عبد الرحمن بيانا ناشد فيه السلطات الأمنية – أي ذاته السلطوية – بإطلاق سراح أحد قياديه بروفيسور محمد زين العابدين. (1) الاثنين الماضي برر حاتم السر استنصاره بالفرنجة في ما يتصل بقضية كادره المعتقل باستنفاد كل الفرص والمحاولات الداخلية مما اضطره – والحديث للسر - لخوض حملة (عالمية) تهدف للضغط على الحكومة لإطلاق سراح كافة المعتقلين قبل أن يبهت كل من سولت له نفسه أن حزب الاستقلال قد كفر بكل ما هو (معارض)، معلنا أن حزبه قرر تصعيد لهجته ضد الأجهزة الأمنية والتصدي لتصرفاتها التي وصفها بالعدوانية ضد منسوبيه من الشباب والطلاب فضلا عن مواصلته لاتصالاته بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان لإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين وكفالة الحريات العامة. (2) ربما لم يدرك المرشح الرئاسي أن السلطات الأمنية استبقت لقاءه بجلاوزة منظمة العفو بإطلاق سراح المعتقل إبراهيم، إلا أن المؤكد تماما أنه لم يدر بخلده أن (عزيزا) آخر من حزبه بقامة بروفيسور محمد زين العابدين ستنعته الوسائط الإعلامية بعد أيام بأنه (معتقل)، وربما لتفادي الحرج تصدى للمهمة القديمة المتجددة المراقب العام وعضو هيئة القيادة بابكر عبد الرحمن مطالبا بإطلاق سراح زين العابدين والسماح لأسرته بزيارته، علاوة على مراعاة حالته الصحية، مبديا امتعاضه – أو امتعاض حزبه - من فكرة أن تكون السلطات الأمنية هي الخصم والحكم قبل أن يذكّر بموقف حزبه المبدئي بأن اعتقال أي مواطن دون تقديمه إلى محاكمة من خلال المسوغات القانونية والأدلة العدلية يعد انتهاكا واضحا لما وصفه ببرنامج الحريات ومناخ الانفتاح السياسي، وهي أوصاف تعبر بالضرورة عن محض حالة تكتيكية يخوضها الرجل بمعية السر وآخرين. (3) ومن نافلة القول إن اعتقال السلطات لكوادر الاتحادي يمثل أحد تداعيات التناقض الذي حملته مشاركة الاتحادي في الحكومة وهي مشاركة غير مرغوب فيها من قبل كثيرين موزعين ما بين الاتحادي والمؤتمر الوطني، وهو ما يفسر صمت كثير من القيادات الاتحادية إزاء الاعتقال مقابل ما اجترحه السر وعبد الرحمن وكلاهما من الرافضين للمشاركة ولم يدخرا جهدا لمقاومتها للدرجة التي جعلت الأول يحتمي ببلاد الإنجليز ويقتسم مع الثاني رفض المناصب السيادية التي عرضت عليهما دون أن يخفيا رغبتها في إنزال حزبهما من (قطار السلطة) وعلى عجل قبل أن يطلق صافرة النهاية، لكيما يتسنى له الاعتصام بجبل يقيه شرور (الطوفان) الذي لا يزال آخرون في الحزب نفسه ينكرون حدوثه ولا يألون جهدا في الدفاع عن خيار المشاركة بل وتعزيزها، الأمر الذي يشي بأن تحركات السر وعبد الرحمن وتقريعهما القاسي للحكومة ليس انفصام شخصية ولا تهجما على الوطني بقدر ما هو إحراج لأشقائهم في الضفة الأخرى وتمهيدا لهزيمتهم ومن ثم التفرغ لمواجهة المؤتمر الوطني بصف واحد معلن الهدف منذ يونيو 1989 وهو ما ستختبره الأيام لا الشهور طبقا لتصريح حاتم السر الذي قاله مسبقا وبثقة منقطعة النظير أن حزبه سيقفز من قطار السلطة عاجلا أم آجلا باعتبار أن قرار المشاركة نفسه كان قفزة في الظلام المسربل بومضة ضوء يتيمة على ضوئها يهتدون لتحقيق فانتازيا الصعود إلى أسفل السلطة.