{ سقط حاجبه بعد نظرة فاحصة أحاطت بتفاصيل دقيقة وأرسلت إشارات أبقت المكان ساكنا وحذرا ووجلا للحظات.. قبل أن يستقر الحاجب تماما أشاح الرجل بجسده واهتماماته وفكره وآماله وأحلامه عن واقع كان قبل أن ينهض الحاجب هو كوكبه وأفقه وسجنه وحياته وملاذ أفكاره.. المكان يتهامس ويتساءل على وقع خطوات الرجل وهي تبتعد، وكل النظرات التي تلاحقه تبدل حذرها ووجلها إلى رجاء وأسى.. خطوات الرجل كلما ابتعدت تصاعد صوتها وكأنها تدوس على قلوبهم وخيط الأسى ينسج من غزل الرجاء حتى يقطعه، وهي اللحظة التي يغيب فيها الرجل عن نظراتهم ولكن وقع خطواته المبتعدة يتصاعد صوتها، يصك آذانهم ويدمي قلوبهم.. { المكان يضج بالصراخ.. يتلاومون ويتبادلون الألفاظ القاسية والعبارات الجارحة وكأن سقف مكانهم وحالهم يكاد يطبق عليهم، الذين كانوا يتولون كبر أذية الرجل يطأطئون رؤوسهم ويتراجعون بأقدامهم وهي مثقلة دون أن تستقبل وجهتها وكأنها تنسحب خلسة، هكذا يتوارون حتى لا تلاحقهم اللعنات على ظهورهم إن هم استقبلوا بيوتهم وأشاحوا أمام قومهم وقد نجحوا في إزاحة الرجل دون أن يتقدموا لمسؤوليات جسام حملها الرجل عن قومه صابرا محتسبا.. خطوات الرجل تهز المكان والزمان والأحلام، وترسم حسرة على الوجوه التي تنأى بنفسها عن الغرض ويطيب لها كل خير فتجدها تحفل بكل رائع وجميل وصادق أمين.. { ينفض سامر المكان إلا من مسؤولياته الجسام وحسرته وتلك الوجوه التي تنتظر أوبة الرجل بعد هروب أدعياء الحق الاجتماعي النبيل، أو أي قادم جديد يحمل ملامح الرجل وصبره الجميل في احتمال الأذى حتى لا يرحل مثل سابقه، فكل مكان وزمان يحملان طبيعة الأشياء.. ثلة من الأخيار وهم قليل، وفئة من الأشرار وهم كثر ترزح تحت وطأتهم مجتمعاتهم، فالناظر لكل مجتمع تصدمه هذه الحقيقة الراكزة فينشأ صراع بين ثلة الأخيار وفئة الأشرار وتتباين المجتمعات في مواقفها من الفئتين، قد تناصر تلك المجتمعات ثلة الأخيار فينصلح حالها أو قد تستجيب لدعاوى فئة الأشرار فتفسد. { المجتمعات البشرية يلفها خيط رفيع يحتمل الشيء وضده ويتسع اللون الرمادي وهو يحجب تفاصيل كثيرة ويختلط الحابل بالنابل في داخله وتستعصي الحقيقة على عامة الناس وتنتشر الفراغات والثغرات التي يتسرب من خلالها الأشرار لا يعصمهم عاصم ولا تمنعهم حكمة ولا نصيحة من بث شرورهم ولا تحملهم طاقتهم الوافرة لفعل خير ولا مالهم ولا سلطانهم ولا جاههم لسد ثغرة داخل مجتمعاتهم، هم فقط يصوبون سهامهم لأجل مصالحهم الخاصة حتى وإن كانت تافهة وحقيرة وذليلة، فيضيع الحق الاجتماعي العام ويتآمرون على كل رجل صادق وخير وأمين إن تجرأ وحمل هموم قومه وتقدمهم. { تلك المجتمعات تدرك الصالح من الطالح ورغم ذلك تعجز عن حسم تطلعات الأشرار وأحيانا تضغط على نفسها وتدعمهم وتتعايش مع أباطيلهم على حساب حاجياتها وحقها في الحياة والمال والسلطان والجاه والوظيفة فتحرم أبناءها جيلا من بعد جيل من كل هذه الحقوق التي يضيعها الأشرار على أبنائهم وأبناء مجتمعاتهم ويتوارثها أصحاب الحق الاجتماعي المطلق داخل بيوت معدودة في هذا البلد ورثت كل شيء وما زلت تلهث وتستخدم البسطاء لتجرد أبناءهم من حقوقهم وتحيلهم إلى (كومبارس) مثل آبائهم الذين أفنوا زهرة أعمارهم وشيخوختهم في خدمة الأسياد. { مضت أكثر من خمسة أعوام وليس في الساحة في تلك القرية غير تلك المهام الجسيمة التي رحل عنها من يحملها وداخل الساحة ليس من صوت له صدى غير خطوات الرجل وهي ما زالت تبتعد وكلما ابتعدت زاد وقعها على مسامع الناس الذين افتقدوه وكذلك الذين أضاعوه وكأن المهام الجسام هي من تستصرخ الجميع وتصك آذانهم و(تهري كبدتهم) وهكذا تضيع أحلام الناس داخل مجتمعاتنا بين ثلة الأخيار وهم دوما لا يحتملون ويرحلون وفئة الأشرار وهم دوما لا يتورعون عن فعل فعلوه وبهذه الطريقة التي تستمد طاقتها من سلبية الناس في تلك المجتمعات وهي ما زالت تسمع للأشرار حتى بعد كل ندم.