وجدهم يتهامسون فألجمهم حضوره المفاجئ وتولّت وجوههم تكملة بقية الحديث وانبرى أحدهم يلملم بقايا المفاجأة ويتحول بالحديث إلى شأن آخر، مغاير لما كان يخوض فيه رفاقه، والرجل يلملم في تفاصيل همسهم من وجوههم التي لم تفلح في إخفاء حقيقة ما كانوا يتخابثون فيه ولم تفلح محاولة كبيرهم للهروب بهم بعيدا عن فطنة وفراسة الرجل وهو قائم يتفحصهم. بدأوا يتسللون واحدا بعد الآخر حتى خلا المجلس إلا من الرجل وكبير فئة النمامين ورفاق الخبث الاجتماعي الذميم الذين أمسكوا بكل خصلة جميلة وداسوا عليها وبطريقتهم هذه التي وجدهم عليها الرجل أناخوا كل مبادرة اجتماعية انطلقت ترفع من شأن القرية، وهم يشيعون الأكاذيب ويحرفون الكلم عن مواضعه.. يتقدم الرجل خطوة نحو كبيرهم والنظرات تتعارك والأنفاس تصعد وتهبط في توال وقلق وصوت الأرجل المبتعدة تحمل الرفاق إلى بيوتهم مسرعين دون أن تمنحهم فرصة للالتفات، والرجل يقطع سلسلة التوقعات الكثيفة التي دخل فيها المشاء الأكبر والأبرز في تاريخ القرية، وهو يرمي بسؤال افتتاحي لأخطر مواجهة تشهدها القرية منذ نشأتها الأولى وببرود غير معهود يصفعه: ليه المرة دي ما ظبطت؟ يطرق المشاء وهو يحفر لنظراته ليدفنها تحت قدميه ولكن فجأة يحاول مداواة فشله بسؤال اختباري: شنو الما ظبطت؟ الرجل يصفعه بعبارة قاسية وغريبة: الما قدرت أسمعه ولكني جمعته من وجوهكم البائسة وعبارتك الغبية التي عجزت أن تداري ما كنتم تهمسون به في حقي أنا. يضيف الرجل كلمات تكشف كل ما كان يقال ويسند كل حديث لصاحبه من رفاق الخبث الاجتماعي اللئيم والدهشة ترسم خيوطا تتبعثر على وجه كبيرهم وهو يتلفظ باعترافه الخطير أمام الرجل ويقول له: نعم كنا نقول ذلك وكنا نخطط لذلك وكانت الأحاديث لأصحابها بمضامينها وعددها كما ذكرت ولكني أسألك بالله هل كنت تستمع لنا؟ يرد عليه الرجل: لا لم أكن أسمعكم ولكني وعلى مدى عقدين من الزمان كنت أقرأ وجوهكم وتحركاتكم وكلماتكم وبالذات تلك التي تخصونني بها حتى كدت أتعرف عليكم وعلى خبائثكم وأنتم تتحركون في الظلام وتتلفظون بخلاف ما كنتم تكتمون، هذه السنوات علمتني مكركم وعلمت كافة أهل القرية خفاياكم فلم يعد لكم سر تخفونه أو قيمة وسط أهلكم تشفع لكم وأنتم تقتلون كل بارقة أمل وموهبة وتسودون صحائف الناس بخبيث مكركم الذي لم يسلم منه نفر من أهل القرية. كبيرهم يتخلص من بعض ذكائه ويتسلح ببعض غبائه ليدافع عن نفسه ومجموعته ويسجل اعترافا، لا يشفع له وإنما يضاعف عقابه الاجتماعي أمام رجل محترم لم تفلح كل حملات تشويه سمعته في أن تعزله من عشيرته وشباب ونساء القرية، يعترف النمام: أنت تعلم ما لنا في صراعاتكم من مصلحة إلا هذا الذي نتخابث فيه ونستثمره حتى لا ينقطع عطاء من نصارع نيابة عنه ونكسب رضاه. يرد الرجل: أنا لا أصارع أحدا هم الذين يصارعونني. يجيبه النمام: نحن وأنت وهم فقط نعرف الحقيقة كاملة أما بقية أهل القرية فإنهم وقود هذا الصراع. يستفسره الرجل: ما ذنبهم؟ يجيبه النمام المشاء: هذا قدرهم وهذه هي سمة الحياة التي نحياها داخل مجتمعاتنا وهي تؤسس لظلم اجتماعي منذ قرون، لن تستطيع خلعه الآن. يعارضه الرجل: أنا لا أعمل لأجل ذلك. يعترض النمام: ما تمضي فيه ينسف إمبراطورية الظلم الاجتماعي التي نتحدث عنها. يتصل الحوار عميقا حتى يلامس خيط الفجر ويفترق الرجلان دون أن يتفقا على شيء ولكن خلصا إلى ممارسة اللعب المكشوف وصار للصراع الاجتماعي معطيات، من حق كل طرف منافسة الآخر فيها فلم تعد أدوات الصراع وشخوصه وتفاصيله خافية على طرف وقد سمى النمام للرجل المحترم كل الأشخاص الذين يصارع هو ورفاقه نيابة عنهم، أما الرجل فقد أدرك حجم الواجب الأخلاقي الذي ينتظره حتى تغتسل قريته وتعود للبسطاء والمساكين داخل كل قرية وقبيلة وجماعة وطريقة حقوقهم الاجتماعية المسلوبة. عند صباح اليوم التالي اجتمع الرفاق في لحظة واحدة أمام دار كبيرهم دون أن تلتقطهم نظرات أهل القرية، فأخبرهم بما دار وما انتهت إليه المواجهة الأخطر فاختلفوا في ما بينهم وعاد منهم من عاد إلى الحق والخير وفضّل بعضهم مواصلة مسيرته وهي ترفرف من فوقها رايات الظلم الاجتماعي المشروع.