سئم حياتهم وحياته حين استعصى عليه احتمالهم وطفقت أفكارهم الصغيرة تعجز عن فهم مقاصده الكبيرة وبدأ يهرب هروبه الكبير، بلا هدى ومن خلفه تلهث عبارة تكاد تستقر على ظهره وهي تلاحقه وتصرخ (ولكن إلى أين؟) ابتلعه اليأس تماما رغم كثافة الأمل والإرادة وقدراته ليتعايش ويحتمل ويضحك من وراء جبل أحزانه. يرسم لنفسه طريقا يسعه والآخرين من حوله ويحرص ألا يخسر حتى عدوه ويطرح طرحه مبرأ من كل عيب ولكن ينسج أعداؤه من مواهبه وأفكاره ومبادراته سوآته وزلاته وسقطاته وهي مهارتهم التي لا يجاريهم فيها أحد وتنجح دوما في استقطاب أغبياء يهمسون بتسريباتهم ويرددون إفكهم القديم وتعجز بصيرة الناس عن مواجهة الأشرار والخبثاء وسدنة النفاق الاجتماعي في سلبية مكنت لهذه الحرب المشروعة ومهدت لها ومكنتها من رقاب موكب الهاربين. في هروبه وتلك العبارة تلاحقه يدرك حقيقة الإنسان ويدرك أن أقرب نقطتين من وإلى الإنسان هما صلاحه وفساده، خيره وشره، ويدرك كذلك أن هذه المسافة القصيرة هي التي تدفع به إلى الهرب في مسافة لا نهاية قريبة لها، وقد بدأ الرجل هروبه منذ ثلاثة عقود ولكن ما يحفزه على مواصلة السير والهرب هو أن المسافة القصيرة هذه أطول من تلك التي أنفق فيها عقوده الثلاثة، ويأسها أهون عليه من اليأس وسط من يهرب منهم. يتعلم من داخل موكبه الهارب أن الحرب وسط المجتمعات البشرية هي الأقسى والأكثر دموية والأطول سجالا من تلك الحروب التي تدور رحاها في أرض المعركة وهذه الفكرة تجعله دوما يركن إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حين يفرق بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر في هذا المقام، بالقدر الذي يتطابق ودرس السنوات الثلاثين ورحلة الهروب الكبير. الحرب قد تشتعل داخل الإنسان حين تصطرع أحواله وأوضاعه ومشاعره، وتضطرب آماله وأحلامه حين ينسفها اليأس الذي تنتجه طاقة سلبية تسكن أغشيته لتقضي على آماله وأحلامه، وقد تشتعل مع آخر أو آخرين أو أن يختلط الحابل بالنابل فتدور الحرب بلا أسباب وتنتهي بلا مقدمات ما تلبث وتعود تبث سمومها والناس يستهويهم الحسد وهو ينزع كل نعمة عن صاحبها أو يقتله إن لم يتجرد منها أو يصطاده بمهارة ويسلبه نعمته ومصالحه وقد يسلبه رضا الناس من حوله بعد أن يضللهم. وهكذا تتنوع أشكال الحرب الاجتماعية الضروس وعلى الأخضر واليابس تدوس، لا تبقي ولا تذر ولا يستطيع كائن من كان أن يفلت منها مهما تسلح بالحكمة ونأى بنفسه عن أشرارها وشرورها أو أغلق عليه داره فإنهم لن يتركوه. يأسف الرجل لقدرة الناس على اختلاق الأشياء وقد صعدت بهم مهارتهم لاختلاقها من العدم وبثها على أوسع نطاق داخل مجتمعات تتحكم فيها الأمية وتتراجع معدلات الوعي الاجتماعي وتنفتح على بعضها في الشر أكثر من انفتاحها لأجل الخير وما من مجتمع يسلم من فئة بعينها خلقت لتسمم علائق الناس وتشوه على مصالحهم وتسعى بينهم لتكيد وتوقع بينهم وتحتفظ هذه الفئة بموقعها داخل المجتمع بفضل قدرتها على احتمال النقد والتجريح الذي تتعرض له حتى وإن سحق كرامتهم وأهانها وأذلّها فإنها تتقبل كل ذلك بنوع من الرضا غريب وكأن ما يتعرضون له يمس أناسا غيرهم ولا يعنيهم من بعيد أو قريب وهذا ما يهبط بالحياة الإنسانية إلى درك سحيق ويتقدم صفوفها كل جريء وتافه وحقير. تشغل الهارب بعقلانيته من داخل موكبه المعادلة التي تبقيه داخل مجتمعه دون أن تناله سهام تلك الفئة وتسمم بينه وبين قومه وقد جرّب من قبل كل طرائق النجاة الاجتماعية الممكنة دون أن ينقطع عطاؤه ولكن فشلت كل محاولاته قبل أن يهرب وهو يدرك تماما أن هذه الفئة هي قدر كل المجتمعات التي تؤذيها وتبقيها مصطرعة ومتخاصمة ومتحاربة ومتحاسدة ومتحاقدة والأدهى والأمر أن مصالح هذه الفئة تستند على هذه الحرب الاجتماعية المتجذرة والمنتشرة حتى داخل الأسر والعوائل دون أن تكون هناك منطقة محرمة. الهارب يستقر به الحال إلى خيارين إما أن يتعايش مع يأسه أو أن يواجه تلك الفئة في حرب تنتهي برحيلهم جميعا.