أذكر لما سألني جدنا مختار «أبسادوبه»، يرحمه الله رحمة واسعة، وذلك في لحظة فارقة في تاريخ الأمة السودانية، سألني: «هل صحيح طبقوا الشريعة البيضاء»، فقلت لا بل «طبقوا الشريعة الإسلامية»، وكنا يومئذ في سنة أولى فكر وسياسة، فانتهرني بصوته الأجش ذاك قائلاً: «ما ياها الشريعة البيضاء»، ومذ يومها ظللت أتساءل إن كانت هناك نسخ مختلفة من الشريعة»، فعلى الأقل أن انقسامات المسرح السياسي الإسلامي في ما بعد قد جعلت هذه الأسئلة تحتدم أكثر، فقد أطلق عليها حزب الأمة القومي «الصحوة الإسلامية»، وأطلق عليها الاتحاديون «الشريعة السمحاء»، على طريقة جدنا مختار «الشريعة البيضاء»، فقد تدرج الإسلاميون من جهة أخرى عبر عدة أطروحات انتهت إلى «المشروع الحضاري»، غير أن آخر الأخبار في هذا الصدد قد تمحورت حول أطروحة «الدستور الإسلامي»، وهي الوثيقة التي أشهرها في الخرطوم منذ نحو أيام القيادي الأخواني صادق عبدالله عبدالماجد مع آخرين من بينهم المؤتمر الشعبي، ولكن المؤتمر الشعبي عاد وانسحب من هذا المنبر متذرعاً بأن الأستاذ عبدالله حسن أحمد، الصيرفي الشهير، نائب الأمين العام، كان يمثل نفسه ولا يمثل الحزب! رأيت أن أطرح أسئلتي المقلقة هذه على «القاعدة الإسلامية» المتباينة وربما المتنازعة في بعض الأحيان، والسؤال المحور هو «هل الإنقاذ بلا شريعة»؟ الإنقاذ التي جاءت أصلاً «لتتمم مكارم الأخلاق»، وذلك حسب نصوصها المكتوبة والمطروحة على أنها أصلاً بعثت لتملأ الأرض عدلاً وتنمية بعدما ملئت جواراًًًً وقحطاً، فعلى الأقل أن الآخرين وبعد مسيرة عقدين من الزمان، يجردونها من صفة إسلامية، فلما تطرح «الدستور الإسلامي» على أنقاض دساتير ولوائح الإنقاذ كأنك تقول «ليست الإنقاذ على شيء»، ذات التهمة المتقاطعة والمتبادلة بين الفريقين، قالت الإنقاذ ليست المعارضة على شيء، وقالت المعارضة «ليست الإنقاذ على شيء»! ومع ضعف آليات الإنقاذ الإعلامية وتراجعها أوشك الآخرون أن يرسخوا أن المؤتمر الوطني بلا هدى وبلا كتاب وبلا مشروع بل وبلا مشروعية، سيما مع وتيرة بعض حالات الفساد هنا وهناك، والمؤتمر الوطني عاجز أن يثبت فقط مجهوداته في هذا الشأن، على أن الدولة تمددت والموارد اتسعت والميزانيات وتضاعفت المشاركات، على أن حجم هذه الخروقات إذا ما قيس مع هذه «التوسعات» ربما يستوعب هذا الأمر غير أنه صحيح أن هنالك مفسدين يجب محاربتهم وهذه طبيعة الأشياء في كل الأزمنة والأمكنة! لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو الآخر «ما هي هذه الشريعة»! على الأقل أن هنالك أناساً من فرط تكرار هذا اللفظ ظلوا ينتظرون مصلحاً ما لينزل لهم هذه «الشريعة» من سماء المدينة الفاضلة إلى سماء الحكومة وسوف ينتظرون طويلاً، فالشريعة في تقديري هي ممارسة شعب وأخلاق أمة مع تهيئة تشريعية من الأجهزة الرسمية. ما عجزت أن تقوله آليات المؤتمر الوطني الإعلامية هو أن شعيرة «ذروة سنام الإسلام» الآن قائمة مع تمايز الصفوف في مسارح العمليات، يهود وعنصريون وغاصبون في مواجهة من يدافع عن دينه ووطنه وعرضه، الصلاة هي الأخرى قائمة بلا منع ولا ترهيب، فمن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، والزكاة الركن لها ديوان وجباة وتشريع رسمي، والاقتصاد قائم على «فكر الأسلمة» المتعارف عليه إقليمياً وعالمياً وهناك مجهودات في «الشرطة المجتمعية» وتستطيع أن تقول إن الدولة قد جعلت كل المنابر والفضائيات متاحة أمام المصلحين، وأنا شخصياً أزعم أن الطريق سالك أمام الذين يرغبون في «صناعة المدينة الفاضلة»، فهناك بعض النخب والعوام يتصورون أن لا شريعة حتى تتحجب آخر قناة سافرة! نحتاج أن نمارس قيمة الاعتراف من الجانبين. مخرج.. دولة الإسلام هي «دولة خير الخطاءين» وليست دولة ملائكة يمشون مطمئنين في الأسواق.. والله أعلم.