كان أهلنا العبابدة، ولا يزالون، يسيرون بقوافلهم لأسابيع طويلة من السودان إلى مصر عبر مدينة دراو، المعقل التاريخي للعبابدة، وهي بامتياز «رحلة التاريخ والنجم والصحراء»، «وبالنجم هم يهتدون»، وهذا الجلد المهيب في ليالي العتامير كما لو أنه ماركة مسجلة باسمهم فيقال أن واحداً من «قبايل البحر» أبدى مرة رغبته في مغامرة الترحال معهم، وبرغم التحذيرات قد خرج معهم، ولما أمضى الرجل أسبوعاً في الصحراء قال لهم: «يا نحنا فتنا.. أو ليس هنالك بلداً اسمها مصر»! بالأمس تذكرت هذه الواقعة الطريفة وأنا أسير من أقصى المدينة، شرق النيل، إلى أقصى غرب الولاية، وذلك لحضور حفل تدشين «الخط الدائري الوسيط»، وهكذا أطلق عليه، والذي يفترض أن ينطلق من طريق دنقلا إلى «كبري الدباسين»، بحيث إن موقع الاحتفال على «الكيلو زيرو»، وأنا إسير في محازاة «تخوم جبال كرري» وحدي كالسيف، أو قل «أنا والنجم والمساء» وهنا إذا ذكرنا صحبة «الإذاعة السودانية» التي تبث في تلك اللحظة أغنية للفنان عثمان حسين، هي الأخرى ذكرتني بمقولة الأستاذ حسين خوجلي - فيا حليل ألوان وزمانها- وقديماً قال حسين خوجلي لا أطرب كثيراً لأغاني أهلنا الشايقية ولكن يطربني الشايقي عثمان حسين، ذلك لأنه خاطب السودانيين من المركز، وبالتحديد من السجانة يا أخ حسين، والعزاء إن ذهبت ألوان فأم درمان باقية على باقة نايل سات وذلكم برغم «ذكراك ما ذكراك... غير العذاب ألوان».. المهم في الأمر كنت في كل مرة أدير أرقام الهاتف باتجاه المحتفلين، إن كنت بالفعل قد تخطيت «الكليو زيرو» وتوغلت في شارع الخرطومدنقلا، فلقد تركت أم درمان وأمبدة وراء ظهري، لكني أخيراً قد وصلت مكان الاحتفال.. والقصة التي ضربنا لها أكباد الإبل هي أن حكومة ولاية الخرطوم بصدد تشييد طريق محوري دائري سمي «بالطريق الوسيط الدائري» يحزم الولاية من ظهرها الغربي، وذلك ليخدم مجموعة مدن ومحليات، فبإمكانك بعد إنجاز هذا الطريق أن تدخل أم درمان عبر جسر «الحلفاية الحتانة» ثم تخرج عبر محلية كرري عابراً «الحارات الشعبية الجديدة»، دخولاً إلى محلية أمبدة من وراء سوق ليبيا، لتلحق بطريقة دنقلا ثم تنعطف باتجاه مدن دار السلامات في طريقك إلى المطار الجديد، ثم تعبر شرقاً عبر كبري الدباسين إلى الخرطوم لتجد أمامك طرقاً دائرية قد تذهب بك إلى منطقة شرق النيل، وبالعكس إذا كنت قادماً من جهة ميناء بورتسودان عبر ولاية نهر النيل، مستخدماً الطريق الدائري الجيلي الخرطوم لتكون الخيارات متاحة أمامك في كل الاتجاهات تفادياً للمرور بوسط المدينة وتخفيف وطأة السير على طرقها الداخلية. يبلغ طول هذا الطريق خمسة وثلاثين كيلومتراً، وتبلغ الكلفة الزمنية ثمانية عشر شهراً، وتقوم على صناعته «شركة المسافات للطرق والجسور»، وكانت الشركة المنفذة قد حشدت آليتها عند «الكيلوزيرو»، مكان الاحتفال، حتى تعلم قريش حجم حشد المعدات، قال عنها ممثل البنى التحتية، إنها عدة معقولة، لكنه أردف: نطالبهم بمضاعفتها حتى تتمكن من إنجاز الطريق في الفترة المتفق عليها، من جهتهم أبدى مهندسو الشركة حماساً شديداً لإنجاز هذه المهمة. وتبقى عهدة في عقبيه، أعنى الدكتور عبد الرحمن الخضر، والي ولاية الخرطوم، وحكومته تجري في موج كالجبال، فبرغم تجاسر الدولار واستحالة المدخلات، فالخضر يفتأ ينزع إلى الوفاء بالاستحقاقات الانتخابية، الازدهار والعمران والحياة الكريمة، الذهاب في وقت واحد في مشروعات أسرة الخرطوم الكبيرة، ومشروعات الأسر الصغيرة. مخرج.. إيقاد شمعة خير من لعن الظلام، وشارع وسطي دائري خير من ألف خطبة عصماء للسيد كمال عمر مليئة «بشتيمة» المؤتمر الوطني، مقابل كل «شتيمة» جديدة طريق دائري، فكل ينفق مما عنده!