أعلنت حكومتا البلدين عدم رغبتهما في العودة مرة أخرى للحرب وعبرتا عن نواياهما في إقامة علاقات حسن جوار متميزة بين شعب واحد فرقت بينه طموحات السياسيين وإخفاقاتهم هذا بالإضافة للتدخلات والأطماع الخارجية والمصالح المشتركة والعلاقات التاريخية واختلاط الدم وعلاقات المصاهرة والعوامل الجغرافية وحالة التعايش السلمي التي كانت تعيشها قبائل التماس واللغة المشتركة والنيل الذي يربط بين جنوب السودان وشماله، كل هذه العناصر تعزز من فرص نجاح علاقات حسن الجوار وتنميتها وتطويرها بعد الانفصال، حيث إن الشمال يمثل بوابة الجنوب للعالم الخارجي، الخرطوم كانت صادقة وأمينة في توجهها ودعوتها ورعايتها لدولة الجنوب الوليدة. القوى الخارجية التي خططت لانفصال الجنوب لا ترغب في إقامة أي نوع من أنواع التعاون بين شمال السودان وجنوبه لانها تسعى لوقف المد الإسلامي والثقافة العربية للدول الأفريقية جنوب الصحراء. الصهيونية العالمية والولايات المتحدةالأمريكية والدول الغربية فرضت إرادتها على دولة الجنوب الوليدة وحرضتها على إثارة القلاقل والمشاكل والفتن مع شمال السودان عن طريق دعم حركات التمرد بجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وهذه ولايات لها حدود مشتركة مع دولة الجنوب مما يساعد في دعم حركات التمرد لوجستياً وبالمشاركة الفعلية في القتال كما يجري حالياً، هذا بالإضافة الى تأمين خطوط الإمداد الخلفية وتوفير الملاذات والقواعد الآمنة لحركات التمرد عند مطاردة القوات الحكومية لها. دولة الجنوب ما زالت في مرحلة الإنشاء والتكوين ولم تبلغ عامها الأول بعد وهي في حالة ضعف شديد خاصة بعد وقف تصدير بترولها مصدر دخلها الوحيد، رغم كل ذلك فإنها تتحرش اليوم بالسودان وهذا أكبر دليل على أنها مدفوعة من أسيادها للقيام بهذا الدور المرسوم لها مسبقاً. يؤكد ذلك التصريحات التي أدلى بها أحد الخبراء الأمريكان الذي أشار إلى أن حكومة الجنوب مطلوب منها زعزعة استقرار شمال السودان خلال هذه المرحلة حتى لا يستطيع استثمار الاكتشافات النفطية الجديدة الضخمة. لقد كشفت هذه التصريحات على أن جوبا مطلوب منها شن حرب استنزاف جديدة كتلك التي انطلقت شرارتها الأولى في 18 أغسطس 1955 على أن يكون مسرح حرب الاستنزاف الجديدة شمال السودان، وعبر عنها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الذي أشار الى أن إسرائيل بنت استراتيجيتها على أن يكون السودان مشغولاً دائماً وأبداً بنفسه حتى لا يقف على رجليه ليدعم قضايا أمته العربية والإسلامية. حرب الاستنزاف الجديدة انطلقت شرارتها بعد الزيارة التاريخية التي قام بهات سلفاكير ميارديت لإسرائيل لشكرها على دعمها السخي الذي لولاه لما نال الجنوب استقلاله، كما عبر بذلك صراحة، هذا بالإضافة الى أنه صرح خلال تلك الزيارة بأنه يعتبر دولة إسرائيل نموذجاً يحتذى به في إقامة دولته الوليدة وهذا يؤكد أن دولة الجنوب دولة عدوانية، بعد هذه الزيارة تم وقف تصدير بترول الجنوب عبر الشمال مباشرة كما بدأت العمليات العسكرية بجنوب النيل الأزرق والعمليات الحالية بجنوب كردفان تتصاعد. خطورة حرب الاستنزاف الجديدة تكمن في أنها تقع في منطقة الحزام الرعوي الذي يمتد من الكرمك شرقاً مروراً بجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان وجنوب دارفور الى غرب أفريقيا غرباً، هذه المنطقة غنية بالأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة المطرية وغنية بثرواتها الحيوانية والصمغ العربي والبترول، من المؤسف حقاً أن يخوض أبناء هذه المناطق حروب الاستنزاف الجديدة بالوكالة عن دولة الجنوب والقوى الخارجية الداعمة لها، حروب الاستنزاف مدمرة للاقتصاد القومي للدول ولهذا فإن أي دولة في العالم تسعى لحسمها في أقصر وقت ممكن. حال الضعف التي تعيشها جوباوالخرطوم هي التي أملت عليهما اللجوء الى هذا النوع من الحروب المدمرة حيث لا تتوفر القوة الكافية لأحد الطرفين لحسم الحرب لصالحه وهذا ما ترغب فيه القوى المعادية، إطالة أمد حرب الاستنزاف ليس في صالح الخرطوم لأنها تصرف على هذه الحروب من مواردها الذاتية المحدودة، أما جوبا فإنها مدعومة دعماً خارجياً إقليميا ودولياً بحجم كبير لخوض هذه الحرب التي تمثل فيها جوبا دور آلية التنفيذ فقط حتى التخطيط لهذه الحروب مفروض عليها. الوضع الحالي بين شمال السودان وجنوبه يشبه تماماً الوضع الذي كان سائداً بين مصر وإسرائيل بعد حرب حزيران 67، لقد اتسم الموقف على الجبهة المصرية بحالة من الجمود والسكون وبحالة من اللا سلم واللا حرب، الجيش المصري بدأ حرب الاستنزاف لرفع الروح المعنوية لأفراده في إطار الاستعدادات الجارية لحرب أكتوبر 73 التي كان الهدف السياسي العسكري لها هو كسر حالة الجمود والسكون السياسي والعسكري الذي كان ماثلاً على الجبهة المصرية. حالة الجمود والسكون السياسي والعسكري المشوبة بالحذر والتربص بين جوباوالخرطوم والتي تخللتها حرب الاستنزاف التي تشنها جوبا على الخرطوم تجعل تطوراتها المستقبلية المتوقعة أن تصبح هذه الحرب حرباً حدودية شاملة بين الدولتين تكون أهدافها الحيوية آبار ومنشآت البترول حتى يتحقق الهدف الحقيقي لحروب الاستنزاف المفروضة على السودان وحتى تتاح الفرصة للمجتمع الدولي للتدخل لإيقاف الحرب تحت مسوغات حماية الشرعية الدولية المزعومة. بالرغم من العداء السافر لدولة الجنوب لشمال السودان، إلا أننا نجد من يتحدث عن خياراتنا المفتوحة للتعاون مع حكومة الجنوب ومن يجلس للتفاوض معها في أديس أبابا في مفاوضات مصيرها الفشل المؤكد، هل هنالك غفلة أكثر من ذلك؟ لا شك أن تلك مفارقات غريبة وعجيبة أن يصبح السودان بلا وجيع.. لقد صبر الشعب السوداني كثيراً على الغلاء الفاحش والفساد الذي استشرى بالبلاد حتى أنشئت له مفوضية خاصة، كما صبر على الجوع والفقر الذي بلغت نسبته أكثر من 90%، كما صبر على فقدان ربع مساحة وطنه ولكنه لن يصبر على ضياع ما تبقى من الوطن حتى لا يتحول شعب السودان الى شعب لاجئ. المطلوب هنا أن تكون الحكومة أكثر حسماً وحزماً في الأمور المصيرية قبل أن تعصف بها رياح الربيع العربي العاتية. ختاماً أسأل الله أن يحفظ بلادنا من كيد الأعداء ومؤامرات العملاء وأن يهدي ولاة الأمر منا الى ما فيه خير البلاد والعباد، وبالله التوفيق. فريق أول ركن/ زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكرية العليا