هي الدويم، مدينة الاتحاديين التي تحاصرها قرى الأنصار، عند رقدتها كقبلة حانية على الشاطئ الغربي للنيل الأبيض، متكئة على وثيقة صلح مع الفقر ولوازمه دون أن تنقص من ابتسامتها شيئا، تعلن تمردها على الجغرافيا وهي تتحفز بكلياتها لعبور الضفة الأخرى متعجلة للقاء ضيفها، وكأن عصا موسى بين طياتها تشق بها عباب النيل مشيا وهرولة، تردد مع حشود الأنصار أهازيجهم الجهادية وصدى النيل يعيدها وكأنها الأصل من فرط أصالتها ووفائها، الله أكبر ولله الحمد، والحمد هنا له من الدلالات السياسية أكثر من الدينية وإمام الأنصار يتخيرها لطرح مشروع خلاصه الوطني قبيل افتتاح مسجدهم في غير ضرار. (1) منذ الصباح الباكر لملمت مدينة (الرضا) أطرافها بشهيق واحد لم تذرفه إلى بوصول إمام الأنصار الصادق المهدي عند الواحدة ظهرا بمعية الأمين العام الجديد إبراهيم الأمين مدشنا أولى مهامه الولائية، وسلفه الفريق صديق إسماعيل ورئيس المكتب السياسي سارة نقد الله بجانب حزمة من قيادات الحزب وهيئة شؤون الأنصار استفزت مشاعرهم حرارة الاستقبال الذي قال عنه إبراهيم الأمين إنه ليس غريبا على (بحر أبيض) التي نصرت الإمام المؤسس محمد أحمد المهدي وفكرته عندما كانت سهام المستعمر تنتاشها. ودون إسراف في التحية دلف الأمين إلى مهامه معلنا مشروع الرقم الحزبي لحصر العضوية وتنظيمها فضلا عن حزمة من الكؤوس تتنافس عليها الولايات في مختلف المجالات التنظيمية والسياسية والخدمية أولها كأس الإمام عبد الرحمن المهدي لأكثر الولايات تنظيما وكأس الإمام صديق المهدي للعمل التنموي، وكأس الإمام الشهيد الهادي للتعبئة وكأس الأمير عبد الرحمن نقد الله في ما يتصل بالنشاط الشبابي، وكأس الراحل عمر نور الدائم للتنمية على مستوى الإقليم عبر منظمات المجتمع المدني، وكأس عباس برشم للتوثيق للشهداء والمناضلين وكأس رابحة الكنانية لنشاط المرأة وكأس عبد الرحمن دبكة للولاية التي تستطيع الاعتماد على ذاتها في نشاطها ومساعدة بقية الولايات وكأس الشباب والتغيير لصاحبه محمد أحمد سلامة. وقبل أن يترك الفرصة للإمام حرض الأمين أهل الولاية على عدم التفريط في أراضيهم لغول المستثمرين وكشف عن سعيهم لتغيير قانون الأراضي بما يحفظ حقوق أهلها. (2) مع تصاعد الهتاف الهستيري، تمجيدا وولها، ابتدر المهدي حديثه ممتدحا المحبة التي تربط بين الأنصار واعتذر بلطف عن غيبته عنهم إلا أنه قال إن الغيبة لم تشمل إهمال مصالح أهل الولاية واستدعى من الذاكرة مساعي لكهربتها وجعلها بستان السودان بتجهيز مليون فدان تزرع في المواسم الثلاثة وبشرهم بأن الولاية موعودة بحضارة زراعية كبيرة في شقيها النباتي والحيواني واستحسن الاتجاه لجعل ولاية النيل الأبيض (صرة) لإنتاج السكر مع مراعاة حقوق الرعاة والزراع وفقا لأسس سليمة وترك مساحة لزراعة الغذاء للإنسان والأعلاف للحيوان وقال إن الواجب على المزارعين بالولاية الاحتذاء بتجربة المناصير لمناهضة عدم تعويضهم نظير نزع أراضيهم لصالح مشاريع السكر. وعن ما رشح من أنباء بهدم خزان جبل أولياء قال إن الخطوة مرفوضة إذا لم يكن فيها مصلحة أكبر للمواطنين باعتباره مربوطا بمشاريع الإعاشة. بعدها عرج المهدي إلى شرح الموقف السياسي لأنصاره منطلقا من قضية هجليج الملحة وهو الذي كان يتحدث قبل ساعتين من تحريرها معلنا استعدادهم للمشاركة في القتال لاسترداد ما وصفه بالحق الضائع لجهة تفريقهم ما بين معارضة الوطن والمؤتمر الوطني، ومتحسرا على هجليج أكثر من غيره وشدد على محاسبة المقصرين في احتلالها باعتبار أنها تعرضت للاعتداء نهاية الشهر الماضي والمسؤولون كانوا يدركون أن الاعتداء سيتكرر مرة أخرى دون فعل شيء إزاء أهم مدينة اقتصادية بالبلاد. ومتحسسا النصيحة انتقد الدعوة إلى تحرير الجنوب من الحركة الشعبية وقال إنها تفقد الحكومة المساندة الشعبية والدولية التي حظيت بها وتغذي المرارات الموجودة سلفا لدى الجنوبيين فضلا عن تقويتها لقيادة الجنوب بدلا عن إضعافها وتبرع للحكومة بوصف طريق الحوار العقلاني لحل القضايا العالقة لسلوكه بدلا عن طريق الألغام والآلام. (3) وموجها حديثه لخصومه الحكوميين والمعارضين معا قال بشيء من الفخر (نحن معارضين للنظام ده من طق طق لي أسّي) بل عارضنا كل الأنظمة الشمولية، وجاعلا من التاريخ شفاعة أردف (نحنا عضام أجدادنا مدفونة في كل بقعة في البلد دي وهم من حرروها). وتوعد المهدي الساعين لطمس كيانهم بالخذلان مستشهدا بقول كتشنر: (دفنت المهدي وراتبه وخليفته ومن يريد بعثهم سأدفنه معهم) فضلا عن رسالة ونجت لزوجته التي ابتدرها بالقول (يا للفرحة) عندما توهم بقضائه على الأنصار الذين بقوا من بعدهما على العهد والعزم الذي لا يلين. ورهن المهدي حلحلة أزمات البلاد بالاستجابة لمشروع السلام الذي طرحه لتحويل دولة الحزب إلى دولة الوطن، وبخس الحديث عن مشاركتهم في الحكومة بالقول (مشاركة في نظام يضهد الناس كو كو كو) وقال إن النظام الجديد الذي يبتغونه يعملون له عبر الوسائل الناعمة وليس الخشنة متفقا مع إبراهيم الأمين في أن المرحلة المقبلة للتعبئة بكل ولايات البلاد وأن لقاء الدويم هو ضربة البداية وذكر المهدي أنصاره الذين كانوا يتزاحمون من حوله شيبا وشبابا بأن (السايقة واصلة والمطرودة ملحوق