بينما الحرب بين الخرطوموجوبا يشتعل أوراها، ويكيل كل طرف من الاتهامات للطرف الآخر. الحرب التي بدأت شرارتها الأولى من جوبا باحتلالها لمدينة هجليج، تتحدى كل محاولات إنهائها ووضع الحلول لنهاياتها بالمزيد من زخات السلاح؛ خرجت جوبا من ركام المعركة والاتهامات المتبادلة والقصف والسلاح بورقة دبلوماسية دفعت بها قبل أسبوع إلى سفارة الخرطوم في جوبا، معلنة فيها موافقة الجنوب رسمياً على قبول ترشيح د.مطرف صديق سفيراً للخرطوم لدى جوبا بعد فترة امتدت لما يفوق الثلاثة أشهر منذ أن دفعت الخرطوم بالرجل مرشحاً لتمثيلها سفيراً في الجنوب، فُسر تأخير الرد عليها في الوقت المتعارف عليه دبلوماسياً بأن الترشيح ربما في طريق الرفض، إلا أن جوبا يبدو أنها محاولة ممارسة لعبة دبلوماسية لوضع نهاية للحرب التي تمردت على الحلول والوسطاء، مما جعل من ينظرون إلى توقيت اختيار مطرف صديق في هذا التوقيت بأنه ربما يأتي من باب المحاولات لمعالجة الأزمة بين البلدين. مطرف صديق علي النميري، الذي ولد بحي ود نوباوي بأم درمان في العام 1952م، والطبيب الذي تخرج في كلية الطب جامعة الخرطوم دون أن يكمل تخصصه، وقبل أن ييمم وجهه شطر وادي دولة الجنوب الوليدة ويجلس على كرسي السفارة الوثير، تنتظره عملية جراحية شاقة لو اختار لنفسه علم الجراحة لوضع حدا لمعضلة متمددة في كامل جسد البلدين المتجاورين بعد أزمات وقضايا عالقة تفتقت جراحها واستعصى نزيفها على التوقف منذ حرب الجنوب في العام 1983 مراوحة بين شد وجذب، فالرجل التحق فور تخرجه بوزارة الصحة الاتحادية: 1980-1984م، وانتقل إلى مجال العمل الطوعي الصحي في أفريقيا 1985- 1991م، حيث كانت بداية عمله في الوكالة الإسلامية الأفرقية للإغاثة بعد أن تم انتدابه إلى الصومال للعمل الإغاثي، ومع مجيء حكومة الإنقاذ الذي يعد الرجل من أبرز قياداتها النافذين في المؤتمر الوطني منذ أن كان حزباً واحداً قبل مفاصلة الإسلاميين، ومع صعود الحركة الإسلامية التي استهوته فانضم إلى صفوفها، وصار بعدها من سياسييها الأوائل منذ أن كان طالباً في الجامعة في يوليو 1976 وهو يرافق زملاء الدراسة الذين من بينهم سيد الخطيب، ويحيى الحسين، محمد الحسن الأمين، غازي صلاح الدين، أمين حسن عمر وآخرون من أبناء جيله؛ كادراً في اتحاد الطلاب. ويروي معاصروه في الجامعة أن مطرف صديق تمتع بقدرات سياسية وتنظيمية عالية جداً، فهو كادر معلوماتي من طراز خاص، ويحيط نفسه بشيء من الغموض, فمواقفه تكون غير متوقعة، ولا يمكن لأحد مهما كان قريباً منه التنبؤ بخطوته القادمة أو رد فعله، فهو يرسم غلالةً على وجهه تجمع بين البرود والشدة، يصعب معها معرفة ما يدور في خلده، علاوة على ذلك فإن مطرف صديق يعمد لإدارة الملفات في أصغر حيز وأصغر دائرة، مخافة خروج المعلومة إلى غير إطارها، حتى إنه يحصر التفكير فيها في خلده. وبعد العام 1989 تم إلحاقه بجهاز الأمن الخارجي خلال الأعوام 1992- أبريل 1996م ومن ثم عُين بعدها نائبا لمدير جهاز الأمن الخارجي 1997- 1998م، وأثار تعيينه بحسب رواية بعض من عايشوه من الإسلاميين مشكلة بينه وبين قطبي المهدي الذي كان يشغل منصب مدير جهاز الأمن لتأتي التعليمات من عل بتعيين مطرف صديق مستشاراً للسلام برئاسة الجمهورية بدرجة وزير دولة في أبريل 1998 وحتى مايو 2001م. ومن عاصروا الرجل أكدوا أنه تم (إبعاده) وتكليفه قنصلاً بسفارة السودان في نيجيريا خلال (1996 –1997) ليعود بعدها سفيراً بوزارة الخارجية في 2001م، ثم وكيلاً للخارجية، التي ظل بها إلى أن أصبح عضواً في وفد نيفاشا التفاوضي، واستبقه مطرف صديق بخبرات بحسب المقربين منه من خلال توليه رئاسة وفد السودان في المفاوضات التي عقدت في سويسرا وخلصت إلى اتفاقية جبال النوبة بين السودان والحركة الشعبية ومثل فيها الرجل اللاعب الأساسي في فضح تفاصيل أوراق التفاض مع جون دانفورث التي اعتبرها الأخير بمثابة اختبار لمدى جدية حكومة السودان في الوصول إلى سلام من عدمه، وامتدت مشاركاته في مفاوضات السلام مع حركة التمرد، في معظم جولات المفاوضات منذ 1992 حتى 2002م ( نيروبي – أديس أبابا – أبوجا – جنيف)، وشارك في عدد من اللقاءات الثنائية والسمنارات مع حركة التمرد برعاية الإيقاد، وواصل مشاركاته في اتفاقيات شريان الحياة مع الأممالمتحدة واللجان الفنية المنبثقة، واجتماعات شركاء الإيقاد في روما، وشارك في العديد من اللجان الوزارية والعلاقات الثنائية. وفي العاشر من ديسمبر من العام (1998) حينما فاجأ عشرة من قيادات المؤتمر الوطني اجتماعا لمجلس شورى الحزب الحاكم بمذكرة فتحت جراحهم على اتساعها وتحدثت لأول مرة عن غياب المؤسسية وغياب الشورى وهيمنة الأمين العام للحزب الشيخ حسن الترابي، الذي هو في نفس الوقت الأب الروحي لهم، كان مطرف صديق أحد أبرز القيادات العشرة لما يتمتع به من مقدرات بحسب المقربين من الرجل ومن مقدرات على إدارة السياسة المعلنة والسرية، فكل المهام التي كانت تُطلب من الرجل اتسمت بالصبغة الأمنية والحاجة إلى أقصى درجات استكشاف المعلومات وحفظها طي الكتمان، ولعل هذا ما يفسر شُح الرجل في إلقاء التصريحات أو الإدلاء بأي معلومات لوسائل الإعلام المختلفة. ومطرف صديق الذي جالس دانفورث في جنيف يرى مقربون منه أن مشاركاته في مفاوضات السلام مع حركات التمرد في معظم جولات التفاوض ساعدته على خوض أدوار في التفاوض وأخرجته من خانة «جمع المعلومات الأمنية» إلى لغة الحوار والأخذ والرد مع الأمريكان والحركة الشعبية في نيفاشا التي أفضت إلى توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا 2005 مع رفاقه زملاء الدراسة ممن اصطلح على تسميتهم ب(أولاد نيفاشا)، كان يُنتظر أن يُحظى الرجل بعدها بمنصب إداري، إلا أن التغيير الوزاري بعد الانتخابات قفز بالرجل من خانة وكيل الخارجية إلى منصب وزير الدولة بالشؤون الإنسانية، في مهمة وضعته بمواجهة مطلب المجتمع الدولي المتكرر على مسامع الحكومة السودانية التي صمت آذانها عنه بالسماح لمنظمات الإغاثة بالدخول إلى ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ليجد الرجل نفسه مرة أخرى لا تفارقه حالة «النيفاشية» بعد أن تم ضمه إلى فريق التفاوض في قضايا النفط والحدود والمواطنة مع دولة الجنوببأديس أبابا من جديد قبل أن يقلب الطرفان طاولة التفاوض ويركلان الاتفاقات والتفاهمات التي توصلا إليها طيلة فترة التفاوض مع فريق الوساطة بقيادة ثابو امبيكي. ومطرف صديق الذي جرب السياسة وخبر دروبها ومارسها في مناحيها المختلفة سياسيها وأمنيها ودبلوماسيها مع الحركة الشعبية أيام التفاوض في نيفاشا وتكشفت له عقلية الرجال الذين يديرون أمر الجنوب، ينتظر منه أن يدير المرحلة المقبلة بين البلدين، بعد كثير من المياه التي جرت تحت الجسر والحرب التي حدثت بين الشمال والجنوب والقضايا الخلافية الشائكة، وهو ما جعل الخبير الدبلوماسي الرشيد أبو شامة وهو يتحدث ل(الأهرام اليوم) يعتبر أن مطرف صديق من الشخصيات التي يمكن أن يطلق عليها صفة دبلوماسي أمني محترف، وأنه مثله مثل غيره من السفراء تنتظره مهمة ممارسة أقصى درجات الدبلوماسية بعيداً عن العقلية الأمنية لتحسين العلاقات بين البلدين بعد التوتر الذي يشوبها خاصة وأن تعيين الرجل والموافقة عليه من قبل حكومة جوبا يجيء والأجواء مشحونة بما يفوق الحد وتتطلب منه إعمال مقدراته الدبلوماسية وجمع المعلومات والتقارير واستخدامها بدرجة من الحذر. وشدد على أنه يجب عليه أن يتبع العمل الدبلوماسي ويرعى أمر الجالية هناك ولا ينحرف في مزالق أمنية تكشفه وتؤدي إلى طرده من الجنوب. وربط أبو شامة بما كانت تتبعه القاهرة مع الخرطوم في إرسال سفراء أمنيين، ومن خبروا الرجل وعاشوا سني دراسته وخبراته أبدوا مخاوفهم من أن تسيطر على مطرف صديق العقلية الأمنية وإدارة العلاقات الدبلوماسية مع الجنوب بها