سيحتل الرجل موقعاً متقدماً في قائمة أكثر الشخصيات تأثيراً في تاريخ السودان الحديث، هذا في حال إعداد دراسة أو استطلاع متخصص يبحث في موضوع التأثير السياسي والاجتماعي والثقافي في بلادنا؛ وموقف الشخصيات الفاعلة في هذا التأثير!!.. وفي مثل هذه «التوقعات» لا يهم إن كنت تحب الطيب مصطفى أو تبغضه.. توافقه أو تخالفه.. ما يهم هو الاعتراف بتأثيره سلباً كان أو إيجاباً من زاوية نظرك للقضايا أو تعاطيك مع الأشياء.. وأهمها وأخطرها شأن السياسة.. تحولاتها وتقلباتها في تاريخنا الحديث!! هذا الرجل يجسِّد مقولة الشهيد سيد قطب في أوضح أمثلتها الحية «عليك أن تُؤمن بدعوتك لدرجة الإيمان الحار.. حينها يُؤمن الناس معك».. والطيب مصطفى عندما أعلن دعوته وصرخته المدوية بانفصال الجنوب وضرورة هذه الخطوة.. عندما أعلن صرخته هذه إنما كان يُعبِّر عن رأيه الشخصي.. وأود أن أذكر هُنا أمراً للتوثيق والتاريخ.. فقد كنتُ محرراً بصحيفة ألوان يوم أحضر الطيب مصطفى مقاله للنشر في الصحيفة.. أُمسيتها كان الأستاذ/ حسين خوجلي خارج مبنى الصحيفة؛ وطلب مني استلام المقال «من عمك المهندس الطيب مصطفى.. وخليهم ينشروه في الصفحة الأخيرة إكراماً لهذا الرجل الشجاع».. وهو نص كلمات «أبو ملاذ» وتوجيهاته.. وصبيحة اليوم التالي كان «منفستو» الطيب مصطفى يحتل الصفحة الأخيرة بكاملها.. من أول السطر.. وحتى آخر نقطة!! لم أجد نفسي متفقاً يوماً ما مع والد الشهيد أبو بكر في دعوته لانفصال الجنوب.. نلتقي في خلافنا العقدي والاستراتيجي مع الحركة الشعبية.. لكن لكلٍ منّا رأيه في التعبير عن هذا الموقف.. وربما تعلو الدهشة أعين البعض متسائلين «وكيف عملت إذن مديراً لتحرير صحيفة الانتباهة؛ قريباً من الطيب مصطفى وموظفاً عنده في الشركة التي تصدر الصحيفة ويجلس هو على كرسي رئيس مجلس الإدارة؟!».. إجابتي وبهدوء ستكون هي إجابة معظم شباب ومحرري صحيفة الانتباهة؛ الذين يعملون في صحيفة تدعو للانفصال وتتبنى خطه ولكنهم ليسوا انفصاليين ولا منبر سلام عادل!! هذه نقطة تُحسب للطيب مصطفى.. فهو «عن قرب» رجل متسامح مع مخالفيه الرأي.. ودود.. وحريص على متابعة ومعالجة قضاياهم.. ولعل التطور والمركز المتقدم الذي تحتله الانتباهة الآن في مضمار سباق الصحافة؛ مرده إلى تفهُّم مجلس الصحيفة لضرورة التعايش مع المهنيين والمبدعين في صناعة الصحافة.. ولا أرى بأساً إن قال أحدهم إنها «براغماتية» الانفصاليين واستخدامهم الأدوات اللازمة لخدمة فكرتهم بامتياز!! الطيب مصطفى عن قرب رجل مليء بالحماس.. والثقة في أفكاره وآرائه لدرجة الاعتداد «الفايت حدو!!».. وهو عن قرب شخصية موَّارة بالحركة لدرجة الاستعجال.. سريع الانفعال.. سريع التفاعل.. سريع الغضب.. بطيء الرضا!!.. ومع هذا فهو رجل «وقَّاف».. لا يجد حرجاً في الاعتذار لمن يتبين له أنه أخطأ في حقهم.. أو حقه.. وخير شاهد على ما أقول هُنا اعتذاره المتكرر لجهات وشخصيات اعتبارية لطالما هاجمها الرجل بضراوة؛ ليتضح لاحقاً أنه أسَّس خطة هجومه وشحذ مدفعية صواريخه الكلامية ومقالاته على «منقولات» لم يجد وقتاً أو يجهد نفسه للاستيثاق من صحتها!! من أين استمد الطيب مصطفى قوته ومن أين يستمد قدرته على مواصلة دعوته وملاحقته لدولة الجنوب حتى بعد الانفصال؟!.. تتفاوت الإجابات على هذا السؤال وتتقاطع.. لكن دعونا نقول ببساطة إنه يستمد قوته من أخطاء الحكومة الاستراتيجية في إدارة ملف عملية السلام؛ وغياب الرؤية الجمعية للتعامل مع عدة قضايا «رمت» في اتجاه دعوة الطيب مصطفى الذي يستمد قوته من صحيفة الانتباهة وليس من منبر السلام العادل، وهو «تكوين» سياسي رمزيته في الطيب مصطفى وبريقه الإعلامي.. هذا مع كامل التقدير لرموز وشباب المنبر؛ وما يقال عن منبر السلام يقال أيضاً عن الوطني والشعبي والأمة.. إذا غاب الرجل الأوَّل.. غاب الحزب.. والكيان والمنبر!! لستُ هُنا بصدد الدفاع عن الطيب مصطفى أو مهاجمته.. وما أُريد قوله باختصار إننا لن نجني شيئاً بالهجوم على صاحب المنبر.. فهو لا يتحمَّل وحده كارثة الانفصال.. وليس من الإنصاف تحميله «وزر» ما جرى وإن كان ما حدث برأيه أمر يستحق التهليل والذبائح!! كثيراً ما كنا نناصح الطيب مصطفى عندما كنا بقربه.. وها نحن نناصحه على الملأ.. أنْ اترك «تتبع» آراء الآخرين وملاحقتهم بالرد المُغلظ.. في القول اللَّين حكمة وعظة.. أما من القول الخشن بحق الآخرين فإنك لن تحصد غير الشوك وسفه الكلام أحياناً. من عجائب الطيب مصطفى أنه يترك لأعدائه اختيار ميدان وسلاح معركتهم ضده!!.. فلماذا لا يُعمل صاحب الزَّفرات قلمه وموقفه في تأسيس رؤيته للسودان ما بعد الانفصال، وهي الرؤية التي لا يملكها الطيب مصطفى حتى الآن على كثرة ما سكب من مداد دفاعاً عن هوية السودان وعروبته دون أن يقدم فكرة ذات مرجعية تُحدِّث عن «منظِّر» وصاحب مشروع لا «كاتب تعبوي» يثير المشاعر ولا يحدّد خارطة الطريق