مشاعر عبد الكريم وللمكان سطوته الباهرة في تكوين المزاج الذي به تشهد الفعالية والحدث، ومركز (راشد دياب للفنون) في أمسية بهائه وبنيانه المرصوص بعناية، تجعل إضاءته النهارية تتكفل بها الشمس عبر مداخل الضوء المهندسة بعناية، والمسائية بخيوط ضوء تتداخل فيها الألوان والحروف. قدم الأحد الماضي مستبقاً بأيام الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، ندوةً قيّمة، أدارها الأستاذ: (عبد الماجد عبد الحميد) رئيس تحرير (الأهرام اليوم)، بدراية طعمها كوكتيلي بين مذاق الصحافي والإداري، مرحباً كما يليق بالحضور، معددّاً أسماء من الحاضرين ومعتذراً بذوق رفيع (عن الذين تخطئهم العين في الذكر لكن لا يخطئهم القلب)، ومرحباً كذلك بالحدث، وبمقدمة منضبطة خالية من الإنشاء الفضفاض دخل مباشرة إلى تقدمة العلامة الفارقة في الإعلام الإقليمي وليس السوداني فقط وأحد المتحدثيّن الأساسيين في الندوة، البروفيسور (علي محمد شمّو) رئيس المجلس القومي للصحافة والمطبوعات والمحاضر في عدد من الكليات، حيث قال، بعد ترحيبه اللطيف: (حريٌّ بنا ونحن نوّقع على دفتر حضور الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي اختارت له اليونسكو لهذا العام شعار: "أصوات جديدة .. حرية الإعلام تساعد على تحويل المجتمعات"، أن نضع في اعتبارنا أننا في السودان من أكثر الدول التي مارست صحافة في العالم. وإن احتفال هذا العام يوافق العيد 109 للصحافة السودانية. وأن الفرق في المعلومة صار يعدّ بالثواني التي ترفع المعلومة إلى الفضاء وتنزلها إلى المتلقي، كما أن المنافذ الصحافية لتلك المعلومة صارت متعددة، ليست المكتوبة فقط الصحف فهناك الصحافة الإذاعية وهي تخدم قطاعاً عريضاً، وهناك الموبايل الذكي وهو حالة قائمة بذاتها، رغم أن كثيرين منا ما زالوا يستخدمونه في إطار تلقي الاتصال أو إرسال الرسائل القصيرة. ونذكر التلغراف فحين ظهوره في القرن التاسع عشر كان يمثل صحافة إخبارية، كلها تفاصيل لا تغفل حين الحديث عن الصحافة. أما عن الحريات فإننا شعب لديه حريات طبيعية حرية العقيدة ، الفكر ، إلخ.. ويستطيع أن يقول أي شيء في أي مكان مع أي شخص أما الحريات المنشورة أو حرية نقل المعلومات فهي التي تحدث فيها وبها المشاكل ". وقدّم المايكروفون للدكتور (صلاح محمد إبراهيم) الأستاذ بكلية العلوم الطبية والتطبيقية، الذي بادر مرحباً ومعلقاً بأنه: "من الصعب الحديث عقب البروفيسور (علي شمو) لما يملكه من ملكة الخطابة وخبرة الدراية بالزمن ومضابط الحديث"، ودلف مختصراً إلى موضوع حرية الصحافة: "إن الحريات تتيح للناس التفكير الراشد الذي بدوره يسهم في تغيير ونماء المجتمعات، والصحافة بدورها تسهم في إثراء النقاش وتكوين المعرفة العلمية، فقد عاصرت الصحافة الثورة الليبرالية فتكون لدى الناس تعريف موازٍ بين الحرية والصحافة، التي تشجع لتحقيق المهنية عبرها في نقل المعلومات بشفافية للمستفيدين القراء والمجتمع لهذا فإن الصحافة تكون دائماً في حالة صدام مع الحريات، وفي السودان ترتبط بالمناخ السياسي إلى أبعد حد.. فاستقرار النظام السياسي يحقق استقراراً لحرية الصحافة، ويقدم ضمانات دستورية للصحافي، (ودي طبعاً مسألة شائكة منذ الاستقلال حتى الآن )" والحديث عن الصحافة الإلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي هذا شيء يدخلنا للحديث عن المهنية في ممارسة العمل الصحافي وحقوق الملكية الفكرية في استخدام أعمال الأفراد.. إلخ. ورغم أن البعض يظن ألاّ ضوابط على تلك المواقع الإلكترونية إلا أن القوانين موجودة والملاحقات مستمرة لضبط ما يقدم عبر تلك البوابات من معلومات للناس. وقبل أن تتيح المنصة الفرصة للمداخلات ذكر الأستاذ (عبد الماجد عبد الحميد) معلقاً: "والهواتف الذكية نقلت لنا يا بروف نبأ استقالة السيد وزير الإعلام عبد الله مسار، وقد كان مقرراً أن يشرّف المنتدى من موقعه، نتمنى أن تزول أسباب تقديمه للاستقالة، ونواصل مباشرة في منح الفرصة للاقتصادي والكاتب المعروف (د. مالك حسين) الذي تداخل: "هناك مثلٌ أن وسائل الإعلام كلما تعطيها تخرج ذاك العطاء للجانب الآخر وهنا في السودان أقول إنه من السهل أن تصبح صحافياً، فلم يعد هناك تحدٍ لصناعة الصحافي، وأقول هذا لما أعرفه من الصحافة فقد كنت المؤسس الأول لبنك المعلومات 1982، وأرى الآن مدى ما تقدمه الصحافة للناس من معلومات تتمثل في الإثارة الفارغة والجريمة بدلاً عن التثقيف، وهذه عملية خوف سياسي أكثر من أنه حجب للحرية". ثم منح الأستاذ (سامي المك) رسام الكاركاتير المعروف فرصة للقول: "إن الناس فرحوا بعودة هجليج وغنوا ورقصوا وكتب الجميع ما كتبوا، لكن لم يقل واحد لماذا احتلت هجليج من الأساس وهي موقع إستراتيجي للسودان؟ لماذا لم تفتح الصحف بوابة التحليلات الصحيحة للمساءلة ومحاسبة من فرط في تحصين هجليج؟» الأستاذة (رجاء نمر) جاءت بعد المداخلة الساخنة تلك بحرارة زائدة وقالت: "كيف نتحدث عن اليوم العالمي لحرية الصحافة وقد سقطت كلمة حرية من اللافتة الموضوعة على خلفية للمنتدى كانت اللافتة الاحتفال باليوم العالمي للصحافة فقط " وأضافت بلغة خطابية عن القوانين الخاضعة للحرية الصحفية من حيث القول: "أن يترك أمر المحاسبة للضمير الصحافي والجهات النقابية المسؤولة من المجلس والاتحاد بدلاً من جهاز الأمن. " بمداخلة ممنوحة من إدارة منصة المنتدى تحدث الأمين العام للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات والناطق الرسمي بوزارة الخارجية (العبيد مروّح) قائلاً: "لقد جئت متابعاً أكثر من أن أكون متحدثاً، ففي وجود رئيس المجلس يبطل حديثي، لكن يمكن أن أقول إننا بحاجة لاندياح المعلومات والمعرفة في الوسائل الإعلامية المختلفة، فتمليك الناس المعلومة يسهم في رفع القدرات الفكرية لدى الناس، وبالتالي يساعد على تغيير وتحويل المجتمعات إلى الأفضل". ومنحت الفرصة لصاحب الدار (د. راشد دياب) كما قدمه قبل الفرصة مدير المنصة ليقول قوله حول دعوة (الجمال المجهول)، فتحدث مداخلاً عن العمل الصحافي والحريات الممنوحة: "أحياناً تمنع السلطات زول من الكتابة فتمنحه بطولة لا داعي لها، لأنك ستجد ألف واحد يطبع ويرسل لك المقال وحينما تقرأه تجده ما مستاهل أصلاً بالنسبة لدعوة الجمال المجهول التي نطلقها فهي مبادرة للأشياء التي تجاهلها الناس وتعتبر خردة، نحن في المركز يمكن أن نحولها إلى جمال بتغييرات بسيطة جداً يمكن للشخص العادي ألا يراها.. وشكراً الحضور وأختصر مداخلتي للزمن". تعقيباً منح (د. صلاح محمد إبراهيم ) نصف دقيقة فعلق: "إن الحديث عن القوانين المقيدة للصحافة يكمن في كلمة (لكن) الموجودة في جملة: (حدود التعبير مسموحة ومكفولة لكل فرد ولكن في حدود القانون) فهذه ال(لكن) تجعل أي نظام يحمي نفسه بما يتيحه لنفسه من إمكانات وتدخُل وقمع". وأضاف ذاكراً "أن صحافة الرأي قد تراجعت في العالم كله لكن الصحافة السودانية ما زالت تقدم الرأي على المعلومات، وخدمة نقل المعلومات هي التي يمكن أن يكون حجبها مؤثراً أكثر من الرأي". البروفيسور (علي شمو) عقّب في دقيقته الممنوحة بشكل مكثف في جملة تمثل ملخصاً لموضوع الحوارات المفتوحة حول حرية الصحافة قائلاً: "الحرية الليبرالية خدعة أرجو ألاّ ننخدع بها، فالسودان ليس أمريكا أو فرنسا أو إيطاليا، فالحريات هناك إذا خرجت من الحكومات تسيطر عليها الشركات والمصالح اليهودية، فهناك لا يمكنك الحديث عن المحرقة و(الهولوكوست) أو تهاجم غوانتانامو. السودان بلّد هشّ ومعقّد ومن يكتب ويطالب بحرية نقل المعلومات يجب أن يضع هذا في اعتباره". اختتم الأستاذ (عبد الماجد عبد الحميد) المنتدى بقوله: "إن الحديث يطول عن الحرية والصحافة، لكن الزمن يحتم علينا أن نتوقف هنا لنترك المكان والزمان للأستاذ الفنان (صلاح ابن البادية)، الذي أذكر له إجابة في حوار قرأته له منذ زمن بعيد لسؤال حول سر حضوره وحفاظه على تلك الطاقة الإبداعية فقال: أنا متسامح مع الجميع ومع نفسي وما أقوم به.. فلهذا المتسامح أترك المايكروفون ليشنّف آذاننا بفنه الجميل".. وبعد أن حيا الحضور الكبير والنوعي، قدم الفنان القدير صلاح بن البادية لوحاته الفنية التي يحفظها الجميع، ومن خلفه فرقة موسيقية ملتزمة العزف، لتكتمل ليلة الاحتفال بحرية الصحافة في مركز راشد دياب بأغنية الشاعر (محمد يوسف موسى) (فات الأوان والانكتب على جبينا الليلة بان