أول مرة ألتقي فيها الدكتور غازي صلاح الدين كفاحاً. كان ذلك على قمة «عمارة الفيحاء»، وكانت الحركة الإسلامية على قمة احتدامها وفعاليتها. وكانت قاطرة الأحداث السودانية على مداخل تسعينيات القرن الماضي، كانت عمارة الفيحاء «بنك فيصل الإسلامي»، بمثابة «دار الأرقم» لإخوان السودان، وكان القوم، قوم شيخ حسن الترابي، يعكفون على صناعة مجسم صغير «لدولة إسلامية» داخل أروقة الفيحاء، على أن تكون الخطوة التالية هي إنزال تلك الدولة من «أفئدة الإسلاميين» وعمارة الفيحاء، إلى عمارة الأرض السودانية كلها، بما يعرف ببناء المشروع الحضاري السوداني على أيدي الإسلاميين، وكان يؤتى بنا على شكل مجموعات وفئات لنخضع لجرعات مكثفة في الضروب والفنون المختلفة، لما كانت تلك المصارف والشركات الإسلامية بمثابة «المشاتل» والحاضن الأول لأولئك الكوادر الذين تزامن خروجهم لمنابر الدولة ومنصات الحكم بما يشبه الانبهار، لدرجة التساؤل المقلق الذي أطلقه يوماً الأديب الراحل الطيب صالح «من أين أتى هؤلاء»؟! أتوا من فيصل والتضامن وشركة التنمية الإسلامية. أتوا من منظمات الدعوة الإسلامية بجامعة إفريقيا العالمية، أتوا من كل حقل ومزرعة وجامعة يا بلادي! * كان دكتور غازي صلاح الدين يومئذ من أولئك المحاضرين الذين يبهروننا ويمتعوننا بتطوافهم الفكري المدهش، وكان الرجل العتباني داخل الحركة ينتمي إلى «فصيل المفكرين المجتهدين» الذين يتقدمهم الدكتور الترابي بلا منازع وهم يومئذ قليل. فأي حركة نهضوية عبر المسيرة التاريخية، تتشكل من «طلائع فكر» يستخدمون طاقاتهم الهائلة لعبور كل الجسور والمطبات وما أكثرها!، وسفينة الإنقاذ منذ انطلاقتها تجري بهم في موج كالجبال، كما هنالك مفكرون هنالك «رجال تعبئة» يستخدمون حناجرهم المرعبة، وهنالك أيضاً أفندية مخلصون (وباش كتبة).. وهنالك شيوخ، وهنالك دراويش. أحد الإخوان لا يزال يذكرني بأنه واحد من «دراويش القوم»، وهنالك «فتوات» يستخدمون التبغ ولهم «حوبات» ولهم «سيخ» إذا ما حمي الوطيس. كانت الحركة الإسلامية عليها من الله الرحمة والغفران، كانت كل ذلك وزيادة. كانت أمة من السودان، من الشرق والغرب والجنوب والشمال، اجتمع في حوشها المديد الصوفيون والسلفيون والراديكاليون، الأذكياء والمغفلون، الغافلون والذاكرون، طلاب الدنيا وطلاب الآخرة، وهذه سنة ماضية «منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة»، وفي بعض الحالات.. «وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم».. كانت هذه مرحلة الجبهة الإسلامية القومية، فأنت حينئذ تحتاج لملء صناديق الانتخابات.. ثم الإنقاذ وما أدراك ما الإنقاذ. * لكن موضوعنا هو «غازي صلاح الدين».. رجل صارم القسمات، لا يعرف الهزل «والمجاملة». كان أحد الإخوان يقول لي بعد المفاصلة «يكفي وجود غازي بهذا المؤتمر»، لما اختلطت أوراق المؤتمرات، كان لغازي صلاح الدين آراء شاهقة على أيام المفاوضات الأولى التي تخلى عنها، امتلك من الجرأة ما يجعله يتحفظ دائماً على مخرجات نيفاشا. أكثر من مرة كاد الرجل ينفرط من عقد الجماعة لولا كياسة بعض نخب المؤتمر الوطني. *ويتجدد السؤال القديم الجديد الآن.. أين غازي صلاح الدين؟ صحيح نعرف أنه «بالقصر الجمهوري» يسكن في وظيفة مستشار لرئيس الجمهورية، كان منذ فترة ناشطاً في ملف دارفور، لكنه لم يعد يظهر بانتظام في فعاليات الدوحة ومخرجاتها، تاركاً الأمر برمته للدكتور أمين حسن عمر، وفترة طويلة مضت دون أن نحس بوجود مدوٍ للرجل، أو نسمع له ركزاً، كما أن هنالك الكثير من القرارات التي تصدر من القصر الجمهوري، حيث الرجل العتباني يقيم، لكنها لا تحمل لمساته. كثيرة هي القرارات والنظرات والتنويرات التي تخرج من الحزب والحكومة والقصر ولا تحمل بصمات وتوقيعات غازي صلاح الدين. * وعلى الذين يراهنون على انتهاء عصر الدكتور غازي صلاح الدين، أقول إن تاريخه الأجهر يفترض أن يبدأ الآن، خاصة إذا كنا نتحدث بين يدي مؤتمر الحركة الإسلامية عن انتهاء فترتي شيخ علي، فأنا لا أعرف بديلاً لشيخ علي عثمان على عرش الحركة الإسلامية غير الدكتور غازي صلاح الدين. * أخي غازي.. ليس هذا الوقت مناسباً للاحتجاب، وأن أي فراغ يصنعه الأذكياء على حين زهد أو سأم، سيملأه غيرهم، كما لو أنه فرار يوم زحف لا يشبهك، فوجودك في دسك الأحداث وشاشات الحكومة والحزب، يجعلنا نطمئن بأن القوم بخير وعلى خير. * مخرج.. أسير أنت يا بحر ما أعظم أسرك أنت مثلي أيها الجبار لا تملك أمرك