حكومة الإنقاذ التي نهضت على أطروحات الحركة الإسلامية قد انتهت الآن إلى إنشاء مفوضوية لمكافحة الفساد. إنها فتنة الثروة والسلطة، كانت الحركة الإسلامية قبل عقدين من الزمان نموذجاً للطُّهر والاستقامة. كنت في منتصف التسعينيات أعمل بإحدى المؤسسات الإسلامية، والإسلاميون يومئذ حديثو عهد بالسلطة، أذكر أن كل الموظفين والعمال الموجودين بصالة ذلك المصرف يقفون احتراماً عندما يمر من أمامهم السيد المدير العام، لم تكن العلاقة بينهم علاقة مدير وعمّال أُجراء، بل كانت قبل ذلك هي علاقة (تلاميذ وطلبة مشروع بشيخ)، كان بتلك المؤسسة يومئذ أكثر من خمسين إمام وخطيب مسجد، بل أن كل العاملين بتلك المؤسسة يمارسون الدعوة بشكل من الأشكال. جاء رجل إلى استقبال تلك المؤسسة في عهد الحركة الذهبي يسأل عن موظف لا يعرف اسمه جيداً، فطُلِب منه وصفاً وعلامات يهتدون بها للتعرُّف عليه، فقال إنه «شاب مُلتحي»، فقال له موظف الاستقبال، هذا لا يعتبر وصفاً ففي هذه المؤسسة الإسلامية فالكُل بِلحى، وكانت الدهشة قد بلغت ذروتها عندما أقدم العاملون في بنك فيصل الإسلامي ولأول مرة في تاريخ المؤسسات الإسلامية على إعلان التهديد بالإضراب والتوقُّف عن العمل إن لم تسوَ لهم بعض المطالب المادية، فاتُهِموا بأنهم «يريدون الدنيا»، وقد صدّروا بيانهم بالآية الكريمة «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بَأَنَّهم ظُلِمُوا وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير». فقال أحد شيوخ مجلس الإدارة: (بالله شوف ديل نُعلِّمهم القرآن، ثم يأتوا ليحاجُّونا به)!، فلقد تمكَّن الإسلاميون يومئذ من صناعة دولة إسلامية داخل عمارة الفيحاء الشهيرة التي كانت بمثابة (دار الأرقم) لهم، وكان التحدي الكبير، لما عزفت مارشات ثورة الإنقاذ، أن يجعلوا السودان كله كمجتمع بنك فيصل، أن ينزلوا بدولتهم من ضيق المؤسسات الإسلامية الخاصة إلى سعة دولة بحكم السودان وتعقيداته التنموية والإثنية والفكرية، ولو كانت كوادر الإسلاميين المؤهّلة لإدارة دولة بحجم السودان تسد وتملأ عشرة بالمائة من الخانات، فإنها في المقابل كانت تحتاج لإدماج تسعين بالمائة من غير الإسلاميين. ولقد فتح التنظيم يومئذ للاستيعاب، فاختلط جيل القُدامى بالقادمين، لقد خاضت الحركة الإسلامية بالسودانيين حرباً على رقعة آلاف الكيلومترات امتدت من البحيرات والإستوائية حتى سفوح البحر الأحمر وجبهات أخرى في دوائر الفكر والاقتصاد والعلاقات الخارجية والحياة. وأتصور أن هذه هي المداخل والمرتكزات والمسوِّغات المنصفة إلى أي قراءة متجردة لتأريخ الحركة الإسلامية في السلطة ومآلاتها. احتدمت عندي هذه المشاعر والأشواق وأنا أحل ضيفاً هذه الأيام على «مشروع إخواننا السلفيين»، أحل ضيفاً على أطروحة طيبة الإعلامية، قضيت ثلاثة أيام بعمارة «إذاعة وتلفزيون طيبة» بالخرطوم جنوب وذلك لقضاء مهمة إعلامية، فالقوم (كأنهم قُريش)، أعنى قد ذكرونا بشباب الحركة الإسلامية وعصرها النضير، وعمارة طيبة كما لو أنها عمارة الفيحاء، (لقد كَبُر ملك إخواننا السلفيين) ونضجت أفكارهم، ونزلوا من منابر الكلام والخطب وبدأوا ممارسة تنزيل الدين على الواقع، إنهم الآن في مرحلة «تدشين الأفكار» وتجريب الأطروحات وتحريك المؤسسات الخاصة، والشباب الذين يديرون هذه المؤسسات والأفكار غاية في الطُّهر والجمال والتهذيب. لكن القصة لم تبدأ بعد، فالقوم لا يزالون في مرحلة «تنزيل الخطاب من المنبر على الأرض»، وهذه المرحلة تتم بروية وتأنِّي ونجاح كبير، وأرجو أن يستفيد إخواننا هؤلاء من تجربة الإسلاميين، فلقد قفزت بنا الحركة الإسلامية في يونيو 1989م إلى عرض بحر متلاطم الأمواج لا نمتلك له سفناً كافية، اقتحام بكثير من التوكُّل وقليل من الإمكانات، ولقد قدّمت الإنقاذ خمسة وعشرين ألف شهيد، والمشروع السلفي لم يبلغ مرحلة «إنتاج الشهادة» بعد، لكنه في الطريق. فقط أرجو أن تستفيد هذه الجماعة من «البنية الفكرية الإنقاذية» وتطويرها وتصويبها، وعدم الاندفاع في «نبذ الأطروحات القائمة وتجريمها». وللحديث بقية بحول الله وقوته.